انتخابات “البعث” في مدار التغيير المنشود
بسام هاشم
انطلقت أمس الانتخابات الحزبية على مستوى الشعب لاختيار الرفاق أعضاء الاجتماع الموسع للجنة المركزية. وفيما تبدو الأجواء في منتهى الشفافية، ويظهر الرفاق تفاعلاً غير مسبوق، يتحرّك حدث الانتخابات، بحدّ ذاته، في مدار التغيير المنشود؛ فالانتحابات التي نعيشها اليوم ليست فعلاً إجرائياً، ومن لا يستطع، أو لا يرِد، أن يتعامل معها خارج هذا الإطار، فلا بدّ أن لديه مشكلة مع رفاقيته، ومع حقيقة وجوهر حزبه، ومع اللحظة الوطنية الراهنة.
لقد تحدّث الرفيق بشار الأسد، رئيس الجمهورية، عن تغيير وتجديد المنظومة، وليس إصلاحها؛ وإذ أراد سيادته أن يكون هذا التغيير تسلسلياً، في الحزب، ومن ثم في الدولة، ومن ثم في المجتمع، فإنه لم يعنِ به انقلاباً على المنظومة، ولا تدميراً لها، بل تجديداً في طريقة عملها الراهنة، واستثمار أفضل طاقاتها، وإعادة تشغيلها، بما يحقق شروط القدرة على المنافسة في عالم يزداد اضطراباً وتحدّياً، وربما عدائية.
وبما أن المنظومة، بالتعريف، هي مجموعة العناصر والمبادئ والسياسات والبنى والممارسات والسلوكيات التي تتفاعل بطريقة متناسقة وواعية ومنظمة، بحيث تشكّل كلاً موحداً، وتضمن الوصول إلى هدف محدّد، وفق بروتوكولات تطبّق على الجميع، ويلتزم بها الجميع، ضمن الحدود الدنيا للهدر في الطاقة النفسية والعملياتية، فإننا نسمح لأنفسنا بالاستنتاج بأن تغيير المنظومة يعني – فيما يعنيه – تغيير بنية العلاقات الداخلية في الحزب، وفي الدولة، وفي المجتمع، كل على حدة، ومن ثم تغيير منظومة العلاقات البينية والمشتركة بين كل من الحزب والدولة والمجتمع، وبحيث تسير الورشة العملاقة إلى أهدافها المرسومة من خلال صيغة توافقية ينبغي أن تتجلّى، أكثر ما تتجلّى، في التحلّي بالمسؤولية، والأهم شجاعة إشهارها، وهي ثقافة لا تزال – للأسف – نادرة في مؤسساتنا، وفي مجتمعنا كله.
وعلى كل حال، ولكي نقطع الطريق على كل من يودّ الاصطياد في المياه العكرة، فإن عملية تغيير المنظومة ليست انعكاساً لأزمة، وليست مواجهة للجدار، بل هي حصيلة قراءة باردة ومتأنية في الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية، واستراتيجية شجاعة تنطلق من الثقة الكاملة بأن سورية دولة وطنية رائدة في محيطها، ولها مؤسساتها القوية التي تنطوي على كل إمكانيات التقدّم والحداثة، وأن الحرب الشرسة لم تتمكّن من ضعضعة هويتها أو دورها، وأن ما عليها اليوم هو أن تمضي، بقوة، لمعانقة مستقبل ترسمه لنفسها بالاعتماد على الذات وبكامل الاستقلالية.. إن شعبنا متعلّم ومتحضّر، وخبرته الحياتية على غاية من النضج والتجذّر، وقد أثبتت سنوات الحرب أنه مستعد للصمود، والتضحية، والتكيّف مع أعتى الظروف، ولن ينهزم ولن يستسلم. ولأن الحقيقة هي كذلك، فإن التغيير سوف ينصبّ على المنظومة، أي الآليات والمعادلات الداخلية التي تحكم عملها، فالحزب يحتاج إلى المزيد من الحضور والفعالية، والمؤسسات تحتاج إلى المزيد من المرونة والشفافية، والمجتمع يحتاج إلى المزيد من المكاشفة والتصالح مع الذات والاعتراف بالمسؤوليات الفردية والجماعية؛ والفساد والإثراء غير المشروع والخيانة ومحاولات استقدام الأجنبي ليست هي المظاهر البغيضة للحرب، فهناك مظاهر أخرى ربما لا تقلّ أهمية: إن طغيان النزعة الاستهلاكية وثقافة الإثراء والنزعة الفردية والرغبة الجنونية في الصعود الاجتماعي والهوس المرضي بتحصيل الثروة والتفسّخ المجتمعي والانهزامية وتراجع الروح الجماعية وانعدام المبادرة والاتكالية.. كلها تلقي بثقلها وراء خسائر الحرب؛ ووعي المشاركة، وتقدير أهمية الصوت الانتخابي، ينهض هنا كلبنة أولى في تغيير المنظومة، وبناء مجتمع المشاركة الإيجابية.
إنها فرصة لإحداث التحولات الضرورية بقرار مستقل وإرادة ذاتية، وهي تعبير أخير عن الانتصار على المؤامرة، وترجمة للانتصار المتحقق؛ وهي ثورة من فوق من حيث هي خلاصة لظروف الحرب والحصار، كما أنها ثورة من تحت من حيث هي انتفاضة ضدّ السلبية واللامبالاة والتنحي “الاختياري”، وإنهاء أنموذج الصعود الاجتماعي القائم على الاستزلام والمحسوبية.. هي ثورة في السلوكية التي تعترف بدور الفرد بعيداً عن الشمولية، ولكنها ارتقاء بهذا الفرد إلى مستوى المسؤولية والمشاركة مع الإقرار بقواعد اللعبة الجديدة القائمة على نبذ العنف في التفكير والممارسة، ونبذ التحريض، وشجاعة الاعتراف بالهزيمة.. الانتخابية!!.
قد يطول التغيير مجمل العلاقة بين الحزب والدولة والمجتمع، وداخل كل منهما، بل طبيعة الحياة اليومية لكل السوريين وعلاقتهم بمؤسساتهم التمثيلية وعلاقتهم ببعضهم كمواطنين، ومع الدولة ككيان سياسي يؤطّر طموحاتهم وتطلعاتهم المشتركة. ويبقى أنّ حامل هذا التغيير هو المواطن العادي، الرفيق، والموظف، والفلاح، والسائق، وحتى رجل الأعمال، وصاحب المعمل، والتاجر، وكل أولئك الذين حان بهم الوقت لكي يبلوروا مفهوماً أكثر تطوراً للمصلحة ينحو باتجاه المشاركة الواعية والإيجابية.
لقد بدأ “البعث” انتخاباته.. مدركاً أنه يصوت للوطن ولقدرة الحزب على تجسيد معنى “البعث”، في ظروف محلية وعربية ودولية تتطلّب منا جميعاً بعثاً لإمكانياتنا وقدراتنا.