سوق بانياس للمهن اليدوية وداعاً.. طرطوس مهددة بفقدان صناعاتها الحرفية والتراثية!!
احتفلوا به أيّما احتفال، وهلّلوا له تهليلاً كبيراً، ولم يتركوا أو يوفروا منبراً ولا منصة إعلامية إلا واستخدموها لسرد عظمة الإنجاز والتفاني والتسابق في تذليل العقبات!! وما إن دبت الحياة فيه حتى عاجلوه بالضربة القاضية التي أجهضته حلماً.. سوق المهن اليدوية والحرف التراثية “الوليد”، في بانياس، أسدل عليه الستار، وأغلق في وجه المشتغلين على إبقائه، ليفتح في وجه الاستثمارات والمزادات، و”من يدفع أكثر”، وليذهب الدور الاجتماعي للوحدات الإدارية والمجالس المحلية إلى الجحيم! وأخشى ما نخشاه أن يلقى سوق المهن اليدوية والحرف التراثية بطرطوس المصير نفسه!
إحداث الأسواق.. ولكن!
يقول منذر رمضان عضو في اتحاد الحرفيين: إن الهدف من إحداث الأسواق الخاصة بالمهن اليدوية والحرف التراثية في طرطوس وبانياس هو إيجاد معرض دائم للمنتجات اليدوية الحرفية، لكن اصطدمنا بآلية التعاطي مع هذه الأسواق التي تحمل خصوصية معينة، والبداية كانت مع مجلس مدينة طرطوس الذي خصّنا بنفق الكورنيش البحري المحاذي لحديقة الطلائع ليكون مستقبلاً نواة تؤسّس لبناء حاضنة تليق بحرفنا وتراثنا.
وعلى مضض – يقول رمضان – تمّ افتتاح أول سوق للمهن اليدوية في المحافظة، وبعد عامين تقريباً افتتح السوق الثاني في بانياس بالتعاون مع مجلس مدينتها، وتأهيل وترميم السوق على نفقة الحرفيين ليحتضن نحو ٤٥ عائلة من الحرفيين التراثيين ذوي الهمم الخاصة وأبناء الأرياف وأسر الشهداء، وأصبح السوق معرضاً مهماً لهذه العراقة المتوارثة.
ما حصل ..
ما حصل هو أن سوق بانياس توقف تماماً عن العمل وأغلق أبوابه في وجه زواره، لأن القوانين والأنظمة، كما يقول منذر رمضان، اعتبرت السوق ملكاً لمجلس المدينة، وأن استثماره يحتاج لمزاد علني وفرض بدلات تأمين على المستفيد إضافة للأجر الشهري الذي يحدّده المزاد، ولأن أغلب الحرفيين من الطبقة الفقيرة وأبناء الأرياف، كان من الصعب تحمّل تلك الأعباء “و يادوب” تأمين أجور الطرقات والتنقلات، ما حال دون المشاركة بالمزاد وبالتالي مغادرة الحرفيين السوق.
وبرأي رمضان، كان من المفروض معاملتهم كأصحاب حرف تراثية لا كمستثمرين وتجار، رغم المحاولات العديدة لإقناع الجهات المعنية بدورهم الاجتماعي بعيداً عن مبدأ الربح والخسارة.
وإذا كان سوق بانياس انتهى بعد عام على إطلاقه، فإننا نخشى – والكلام للمحرر – أن سوق طرطوس سيلاقي ما لقيه سوق بانياس عاجلاً أم آجلاً بسبب موقعه غير الموفق “المهجور” الذي يحتاج لكثير من الترويج والدعاية المكلفة التي لا طاقة للحرفيين بها، ولاسيما في هذه الظروف الاقتصادية والخدمية الصعبة.
ويقترح عضو المؤتمر تخصيص الساحة المحاذية لسوق المهن اليدوية بمدينة طرطوس لتشييد بناء طابقي بانورامي يكون حاضنة تضمّ “شيوخ الكار”، وفق أجندة وخطة تعمل على الحفاظ على تراثنا وحرفنا اليدوية لإنقاذها من الضياع والتلاشي ونسيان الهوية.
مهددة بالاندثار..!
وأوضح رمضان أن صناعة السفن ومراكب الصيد والنزهة التقليدية على سبيل المثال مهدّدة بالتوقف بسبب عقبات مختلفة أثرت على ممتهنيها، ولم يتمّ نقل هذه الحرفة للأبناء والأحفاد الذين اختاروا أسفار البحر لتحسين أحوالهم المادية متخلين عن مهنة الآباء والأجداد المعمّرين الذين لا يتجاوز عددهم العشرة، ما يتطلّب دق ناقوس خطر اندثار هذه الصناعة التقليدية العظيمة، رغم أننا لم ندخر جهداً لدعمها، ورغم الوعود التي تلقيناها لتقديم التسهيلات والإعفاءات لحرفييها لإبقائها على قيد الحياة، وضمان نقل خبرة أصحابها للأجيال وتحويلها لدراسة أكاديمية وعملية تطبيقية.
والحرير الطبيعي مثال آخر
هذا الحال يذكرنا بما كانت مرت به صناعة الحرير الطبيعي، منتصف القرن التاسع عشر، والتي ظلّت لسنوات وعقود طويلة صناعة رائجة ومصدر دخل لعشرات الأسر التي استطاعت تجاوز السوق المحلية إلى العالمية، واستطاعت بعض الأسر في قرية المشتى التحتاني بريف طرطوس امتلاك أكبر معمل في الشرق الأوسط، عام ١٨٥٠، ضمّ في ذلك الوقت نحو ثلاثمائة عامل وعاملة بورديات عمل منظمة، وكان إنتاجه بالأطنان ويصدّر خيوطه الخام والمصنّعة إلى العالم، فاشتهر ساحلنا أنه الممر الطبيعي لطريق الحرير لتموت هذه الصناعة الفريدة بموت أصحابها، ولم تفلح كل المحاولات لبثّ الحياة فيها وإحيائها من جديد لأسباب تعدّ جوهرية لعودة المعامل المختصة وإقامة شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص تعمل على تشجيع المربين وإعادة الاهتمام بالبنى التحتية لتربية شرانق الحرير وزراعة أشجار التوت البري وتوفير الدعم المادي المطلوب.
الأواني الفخارية
وعلى ما يبدو، فإن صناعة الأواني الفخارية تسير على خطا صناعة المراكب والحرير الطبيعي تقريباً، كونها لا تزال تشهد بعض الرواج وتلقى اهتمام بعض المقتنين والراغبين في تصنيعها، رغم عدم توفر موادها الأولية التي تتواجد في مناطق محدّدة وبعيدة تزيد من كلفة إنتاجها ونقلها، يضاف لذلك عدم توفر الطاقة لأفرانها.
أطباق القش وزخرفاتها المدهشة
أيضاً تلاقي حرفة صناعة أطباق القش الشاقة صعوبات جمّة في تأمين المواد الأولية مثل سويقات القمح الذهبي والتكاليف المرتفعة لمواد الصباغة التي تفوق قدرة حرفي بسيط يعيش في أقاصي الريف، وهذا بدوره يحدّ من انتشارها والتفنّن في صناعتها وحرفنتها في ظل غياب الرعاة والداعمين ويهدّدها بالتوقف.
القائمة تطول..
وهناك العديد من الحرف المتناهية الصغر التي لا تزال حيّة رغم سكرات الموت التي تعانيها بسبب تمسّك أصحابها بها، لما تؤمنه لهم من دخل مادي متواضع، كالصوف والكروشيه والسجاد اليدوي والخيزران وأعمال الحفر على الخشب المختلفة والحلي والمجوهرات والفضة والأحجار الكريمة التي شهدت تطوراً مهماً في صناعتها.
ولمؤونة الطعام فنونها
وأيضاً لمؤونة الجدات فنونها ونصيبها الكبير من الانتشار والرواج والأفضلية، وكذلك مقطرات ماء الزهر والورد.. إلخ، وأمام هذا البحر من التنوع الحرفي الذي دخل التراث من بابه الواسع، أين نحن منه وهل حافظنا عليه ونعمل على تطويره؟!.
أسئلة محرجة..؟
أسئلة محرجة تطرح نفسها غايتها الحفاظ على أيقوناتنا الحرفية البديعة وتطويرها كي لا نخسرها، وما زال هناك عدد لا بأس به من الحرفيين وغير الحرفيين الذين يعشقون هذه الحرف ويؤمنون بها لكنها تحتاج للدعم والاحتضان الفعلي لا الشعاراتي!
وائل علي