فجوة هائلة بين أمريكا القديمة والجديدة!
عناية ناصر
يشهد العالم في عام الانتخابات سيناريو “قصة أمريكتين” مع تصاعد عدد كبير من الخلافات داخل الولايات المتحدة إلى مخاطر اندلاع حرب أهلية جديدة، فما سبب الانقسام العميق في البلاد؟ وإلى أين يتجه؟.
لقد ظلت الروايات عن انحدار أمريكا الوشيك، والصراع الداخلي، والانهيار، متداولة على الساحة الدولية لفترة طويلة، واليوم، أصبحت هذه الأصوات قوية. ففي عام الانتخابات نشهد “أمريكتين”: الولايات المتحدة “الحمراء” و”الزرقاء”، ولكل منهما دوائر اجتماعية ودوائر إعلامية ومجالات سياسية خاصة بها، وتحمل وجهات نظر متباينة حول العديد من القضايا. وفي هذا الإطار يشير بعض الباحثين الأمريكيين إلى أن هاتين “الأمريكتين” تعيشان في الأساس حالة حرب أهلية “باردة”.
لا توجد حتى الآن أي علامات على خروج الولايات المتحدة من المسرح العالمي. في عام 2023، وصل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة إلى أكثر من 80 ألف دولار، وهذه أخبار من الممكن ألا تبشر بإنهاء هيمنة الدولار الأمريكي. ومع ذلك، فإن التجارب الدورية لصعود وسقوط القوى العظمى في تاريخ العالم تثبت مراراً وتكراراً أنه لا توجد دولة قادرة على الحفاظ على هيمنتها بشكل دائم، والولايات المتحدة ليست استثناءً. إن استدامة الهيمنة لا ترتبط بالضرورة بالازدهار الاقتصادي أو الانحدار. على سبيل المثال، لم تؤدّ أزمة الكساد الكبير، التي بدأت في عام 1929، إلى حرب أهلية، ولا حتى أزمة الرهن العقاري الثانوي في عام 2008.
إذا كانت هناك حرب أهلية جديدة، فإنها لن تنشأ من الركود الاقتصادي أو الصراعات العنصرية، بل من الصدام المعرفي الداخلي في الولايات المتحدة. في الماضي، اعتاد الناس على تفسير العلاقات الدولية باستخدام نظرية صاموئيل هنتنغتون. يمثل المهاجرون المختلفون في الولايات المتحدة حضاراتٍ مختلفة من قارات مختلفة، تتلاقى في الولايات المتحدة. لقد عملوا ذات يوم على جعل أمريكا عظيمة، لكنهم يجسدون أيضاً وجهات نظر عالمية وقيماً وأساليب حياة ووجهات نظر ثقافية مختلفة لا يمكن دمجها بسهولة. وقد أدّى هذا إلى ظهور “صراع الحضارات” داخل الولايات المتحدة.
في الوقت الحاضر، أصبح الحزبان الديمقراطي والجمهوري متورّطين بشدة في قضايا مراقبة الحدود. وأرسلت ولاية تكساس حرسها الوطني وأنشأت حاجزاً حدودياً لمنع المهاجرين غير الشرعيين من الدخول، وهو ما يعادل صب الزيت على النار فيما يتعلق بالقضايا الحزبية. في كانون الثاني، قال حاكم ولاية تكساس، غريغ أبوت: إنه سيواصل الدفاع عن حدود ولايته على الرغم من أمر المحكمة العليا الذي يسمح لحرس الحدود الأمريكي بإزالة الأسلاك الشائكة التي أقيمت في تكساس على طول أجزاء من حدود الولايات المتحدة مع المكسيك. وقالت بعض التقارير الأمريكية: إن هذه الخطوة لا تمثل تحدّياً للسلطة الفيدرالية فحسب، بل أيضاً لسلطة المحكمة العليا، وفي نهاية المطاف لسيادة الدستور نفسه.
قضت المحكمة العليا الأمريكية بأن ولاية تكساس لا يمكنها منع العملاء الفيدراليين من الوصول إلى الحدود، ما أثار ردّ فعل جماعياً آخر من الولايات الجمهورية. من المؤكد أنه يمكن ملاحظة هذا الحدث وتفسيره على خلفية السياسات الحزبية والانتخابات الرئاسية. ومع ذلك، فهو يعكس، بمعنى أكثر عمقاً، مواجهة معرفية داخلية وصراعاً ذاتياً غير قابل للتسوية داخل الولايات المتحدة.
ذات يوم كانت التعدّدية الثقافية هي القوة الدافعة وراء ازدهار أمريكا، ورغم ذلك فقد فقدت ديناميكيتها. إن بعض الثقافات الأمريكية الأصلية، التي كانت ذات يوم تدعمها وتغذيها حضارات خارجية، تغرق على نحو متزايد في المستنقعات المعرفية. إن الخلاف بين الحكومة الفيدرالية وتكساس، الذي يعكس التمزّق والفجوة الهائلة بين أمريكا القديمة وأمريكا الجديدة على المستوى الحضاري، يصادف أنه كان الدافع الأساسي للاستهلاك الداخلي والحرب الأهلية.
إن القوة الدافعة الرئيسية وراء تراجع الولايات المتحدة والحرب الأهلية المحتملة هي الصراع الحضاري الداخلي، الذي يشمل الصواب السياسي، ووجهات النظر العالمية، والقيم، وأساليب الحياة، والمنظورات الثقافية. واليوم تقف الولايات المتحدة على حافة هذا البركان. إن الخطر الذي يتهدّد الولايات المتحدة لا ينبع من الصين أو أي عوامل خارجية أخرى، بل من الداخل. إن قضية الهجرة غير الشرعية تعكس الانقسامات والصراعات الداخلية، وهي على وجه التحديد الشرارة التي قد تشعل البركان.
قسّم المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل التاريخ إلى ثلاث عمليات. ومن منظور طويل الأمد، فإن انحدار الولايات المتحدة أمر لا مفر منه، وسوف يكون هذا الانحدار الأطول والأعمق. ومن حيث النطاقات الزمنية المتوسطة والأقصر، لا يقدم علم الاقتصاد سوى القليل من المراجع القيمة. إن الصدام الداخلي بين الحضارات على وجه التحديد هو الذي يقدم نظرة ثاقبة للكيفية التي قد تنحدر بها الولايات المتحدة أو حتى تشهد حرباً أهلية.