موسم التملّص من مجزرة رفح القادمة
أحمد حسن
هذا موسم تبرئة الذات من الجرائم السابقة والتملّص من تبعات القادمة، وبالتأكيد ليس بسبب فداحتها وخطورتها، فقد اعتادوا على ارتكاب الأفظع منها، بل بسبب الفشل في إنهائها بالطريقة التي يرونها مناسبة لهم ولمخططاتهم الإجرامية.
وهكذا.. شهدنا الرئيس الأمريكي جو بايدن، وبعد أن اعتبر سابقاً أن الرد العسكري الإسرائيلي في غزة “مفرط”، يبلّغ نتنياهو بالأمس “ضرورة حماية النازحين في رفح”. وبالطبع، فإن هذا ليس إلّا جزءاً من حملة الضخ الإعلامي الأمريكي منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة لتبرئة الذات، ومثالها الأوضح كان مقال العرّاب، توماس فريدمان، في نيويورك تايمز عن “فهم الشرق الأوسط من خلال مملكة الحيوان”، حيث الجميع بنظره حيوانات جامحة، وتحاول واشنطن، وحيدة، مع حلفائها قبل خصومها إقناعهم بتأمين الأمن والسلام هناك.
واستطراداً، فإن الطعنات الـ”بروتوسية” الطابع التي بدأ بايدن بتلقّيها في واشنطن، والتي غُلّفت باعتباره “رجلاً مسنّاً وودّياً، نيته صافية وذاكرته سيئة”، وإن جاءت في سياق داخلي، إلّا أنها تخدم، بالمحصلة هدفاً خارجياً؛ فلأنه كذلك، لا داعي لمساءلته، وحزبه بالمحصلة، عن “جنحة” بسيطة في الداخل، وطبعاً – وهذا ما يسمّى المسكوت عنه – عن جريمة كبرى في الخارج.
وفي هذا السياق، سياق التبرئة من السابق والتملّص من اللاحق، جاء “قلق” بريطانيا “العميق”، على ما وصفه وزير خارجيتها ديفيد كاميرون – ليذكرنا بملك القلق الكبير، بان كي مون – بشأن عزم “إسرائيل”، وليدة وعد سلف كاميرون “الصالح”، آرثر بلفور، توسيع هجومها البري على غزة ليشمل مدينة رفح!
وبالطبع، لم تتأخّر فرنسا أيضاً عن السير في هذا الطريق، وإن لم تستخدم مفردات شريكتها في سايكس – بيكو، فهي وإن كانت تتضامن مع الإسرائيليين الذين عاشوا “صدمة حقيقية”، كما قال وزير خارجيتها، ستيفان سيغورنيه، إلا أنها ترى أن “الوضع الإنساني في غزة اليوم كارثي وغير مقبول”!
لكن، هل يكفي “القلق”، ولو كان عميقاً، لمنع المجزرة؟ بالطبع لا، فعلى ما يبدو أن “قلق” هؤلاء جميعاً يقول، ضمناً: إن الاكتفاء بتدمير غزة وإبادة سكانها أمر طبيعي، وإن وضع الفلسطينيين كان مقبولاً قبل العدوان وما كان عليهم سوى السكوت عن الاحتلال.
أمّا العرب فهم، كالعادة، بعضهم يساهم بحماسة في موسم “القلق” هذا، وبعضهم يساهم بحماسة أيضاً، سواء بالسياسة المخاتلة أم بالمال والاقتصاد، في مجزرة فلسطين كلها لا غزة فقط، وبعضهم، يتذرّع بالحرّ والقرّ، وبعضهم، كالمثقفين الثوريين، وامتثالاً لمتطلّبات المال “الأسود”، وهي كثيرة، أو الحقد، وهو أسوأ مستشار في السياسة، يساهم في النقض لا النقد – فهذا الأخير حق أساسي مكفول للجميع – مشكّكاً بدوافع المقاومة ومحورها ومركّزاً سهامه (الأخلاقية الطابع!) عليها، متجاهلاً بذلك واقع التباينات الطبيعية بين أطرافها التي يفرضها مستوى القدرات وطبيعة الظروف والتوازنات الداخلية والخارجية، وبعضهم، أي العرب، مشغول بكأس آسيا كما انشغلوا بكأس العالم حين اجتاحت “إسرائيل” لبنان وصولاً إلى عاصمته بيروت.
لكن، وبغض النظر عمّا سبق، يبقى السؤال: ما هي طبيعة الحلول لهذا “القلق العميق” الذي يشعر به الأمريكي والبريطاني، و”الوضع غير المبرر” الذي يراه الفرنسي؟ ويبدو أن الوزير البريطاني نطق بلسان هؤلاء جميعاً حين قال إن “الأولوية يجب أن تكون الوقف الفوري للقتال لإدخال المساعدات وإخراج الرهائن، ثم التقدم نحو وقف دائم ومستدام لإطلاق النار”! وهذا كلام جميل، لكنه يتجاهل كلياً أن المشكلة لم تبدأ في السابع من تشرين الأول في العام الماضي، بل في عام 1948، بل قبل ذلك بكثير أيضاً، وبرعاية حكومته ذاتها، وأن المأساة مستمرة برعاية هؤلاء جميعاً وعلى رأسهم “الرجل المسن والوديّ”، المالك لزمام القرار في البيت الأبيض، وبقية “البيوت” في أوروبا وسواها، وتجاهل ذلك هو ما يوضّح تحديداً حدود القلق الغربي، حتى لو كان عميقاً، وهو أيضاً ما يفرض على الجميع هنا اتباع طريق المقاومة باعتبار أن السيف، كما تقول الوقائع، أصدق إنباءً من هذا القلق الزائف والمخاتل.