إرث العدوان على غزة سيستمر لأجيال عديدة
هيفاء علي
يحتوي قطاع غزة على ملايين الأطنان من الخردة المعدنية والإسمنت المسحوق والأنابيب والمواد البلاستيكية والمواد الكيميائية، ولعقود من الزمن، سوف يتعرّض البشر والتربة والبحر الأبيض المتوسط للتسمّم، ولاسيما أن إنهاء العدوان أصبح مستحيلاً أكثر فأكثر.
وللعلم فإن أول ساحة معركة للعنف الحديث، وأكبرها على الإطلاق، تقع في وسط أوروبا، حيث لقي أكثر من ثلاثمائة ألف رجل حتفهم وأصيب نصف مليون آخرون أو تعرّضوا لهجمات بالغاز. وقبيل انتهاء المعركة، تم إطلاق أكثر من أربعين مليون قذيفة، وهذه القذائف، بالإضافة إلى أجزاء بنادق مكسورة وكتل من الجثث البشرية، تركت في الأرض عندما انتهت معركة فردان بين الألمان والفرنسيين خلال الحرب العالمية الأولى.
وعلى جانبي الحدود، في السوم وإيبرس ببلجيكا، حيث وصل الدمار أيضاً إلى أبعاد مروّعة، تمّت إعادة استخدام الأراضي الزراعية الجيدة بنجاح، ولكن حتى هذا اليوم، يواجه المزارعون المحليون “محاصيل الحديد” الأصداف والمعادن التي دُفنت لأكثر من مائة عام ولا يزال يتم العثور عليها اليوم.
في فردان، كانت التضاريس أكثر تقطعاً وانحداراً، وكان الضرر شاملاً “صحراء بيولوجية”، كما يسمّيها المحللون. ولا تزال مساحات شاسعة من الأراضي محظورة، حيث تم زرع الغابات التي ما زالت مظلمة وكثيفة. بعد انتهاء الحرب، تم جمع مائتي ألف سلاح كيميائي: غاز الخردل، والغاز المسيل للدموع، والفوسجين، في مقبرة جماعية كبيرة وتم إشعال النار فيها.
وفي عام 2017، بعد مرور مائة عام، اختبر العلماء الألمان التربة ووجدوا مستوياتٍ عالية من الزرنيخ والمعادن الثقيلة.
وفي قطاع غزة، وهو أحد أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في العالم، تشير التقديرات إلى أن ما يصل إلى 15 مليون طن من مواد البناء المسحوقة متناثرة الآن. ومقارنة بالهجوم على مركز التجارة العالمي، الذي خلّف مليون طن من الأنقاض في منطقة غراوند زيرو، فإن حجم هذه الكارثة هائل، حيث توفي ما يقرب من ثلاثة آلاف شخص في ذلك اليوم، 11 أيلول 2001. ومنذ ذلك الحين، تم تشخيص إصابة ما يصل إلى عشرة آلاف شخص بالسرطان وأمراض الجهاز التنفسي والرئة الخطيرة، كنتيجة مباشرة للمزيج السام من الغبار والأسبستوس والمواد الكيميائية المنتشرة في جميع أنحاء مانهاتن. لقد مات عدد أكبر من الأشخاص بعد أحداث 11 أيلول مقارنة بالهجوم الإرهابي نفسه.
وهكذا يموت عدد كبير من الأشخاص والكائنات الحية الأخرى في الحرب، ولكن السؤال المهم الذي يطرحه المحللون هو: كم عدد الأشخاص الذين يموتون بعد الحرب بسبب السموم المتبقية في التربة والهواء والأجسام والعقول؟ فمتى تنتهي الحرب؟ ومتى يتعافى الإنسان والتربة والغطاء النباتي؟.
حقيقة، وحسب المحللين، يوجد في غزة خمسة عشر مليون طن من حطام الحضارة، الأسمنت، والأسبستوس، والمواد المانعة للتسرّب، والمواد الكيميائية المنزلية والصناعية، والزجاج، والأسلاك والإلكترونيات المحروقة، والمواد الكيميائية الثنائية الفينيل المتعدد الكلور وهو مصطلح عام لمختلف المواد السامة والثابتة.
وعندما يتم إطلاق كل هذه المواد وتحويلها إلى غبار ومسحوق، فإنها تطلق أليافاً مجهرية تخترق الأجسام البشرية الهشة بسهولة. وإذا تمّت بالفعل إزالة جبال السموم الهائلة، فما هي كمية السموم التي توغلت في الأرض وفي رئتي شباب غزة؟.
يُضاف إلى ذلك الانبعاثات الناجمة عن الحرب نفسها، فحسب صحيفة الغارديان، تشير التقديرات إلى أن العدوان الإسرائيلي خلال الشهرين الماضيين كان له “تكلفة مناخية” تعادل انبعاث مائة وخمسين ألف طن من الكربون، ولكن الحديث هنا عن الانبعاثات الناجمة عن القصف الجوي والدبابات والآليات الحربية الأخرى، فضلاً عن انفجار الصواريخ وقطع المدفعية.
وبالتالي، غالباً ما يكون الوضع بعد الحرب في البلدان التي تتعرّض للحروب فوضوياً للغاية والاحتياجات هائلة جداً بحيث لا يمكن أبداً قياس وجمع هذا النوع من المعلومات، على سبيل المثال، من سيحسب التلوّث والانبعاثات الناجمة عن الحرب في أوكرانيا؟، إذ لا تمتلك أوكرانيا فقط بعضاً من أفضل الأراضي الزراعية في العالم، بل هي أيضاً موطن لما لا يقل عن ثلث التنوّع البيولوجي الأوروبي، وهي اليوم واحدة من أكثر الدول الملغومة في العالم. ومن الواجب تطهير ثلث البلاد من الألغام والقنابل العنقودية والصواريخ القديمة، والحرب لم تنتهِ بعد.
الأمر نفسه ينسحب على ولاية نيو مكسيكو التي تم فيها إنشاء القنبلة الذرية، وقد تمّت تجربة “ترينيتي” النووية عام 1946، وكان هناك ضحايا كثر لأن الإشعاع انتشر بفعل الرياح من موقع التجربة إلى المناطق السكنية في الولاية، ولم يتم تحذير أحد مسبقاً، ولم يتم إجلاء أحد، حتى عندما غطت الأمطار مزارعهم ومنازلهم وآبارهم بالثلوج، ولم تتخذ السلطات أيّ إجراء قط.
واليوم، بعد مرور أربعة أجيال، أصبح معدل الإصابة بالسرطان مرتفعاً جداً، مع العلم أن العديد من السكان هم من أصل لاتيني أو من السكان الأصليين، وهم من الفئات المحرومة اجتماعياً واقتصادياً ولا يتم الاستماع إليهم، ولا يمثل المتضرّرون في نيو مكسيكو سوى جزء صغير من مئات الآلاف من الأشخاص المتأثرين بشكل مباشر أو غير مباشر باستخراج اليورانيوم والتجارب النووية في الولايات المتحدة، وجزر مارشال وأماكن أخرى.
يُظهر علم الوراثة اللاجيني الجديد أن الصدمة يمكن أن تنتقل وراثياً، ولعل الروح الإنسانية هي انعكاس للطبيعة التي هي جزء منها. فإذا استمرّت الحرب واستمرّت في التأثير على الأرض لمدة مائة عام على الأقل، فإنها ستبقى تؤثر في السكان الذين يعيشون على الأرض وفيها، ولذلك فإن إرث الحرب سوف يستمرّ لأجيال.