ثقافةصحيفة البعث

“حلب بيت النغم”.. إضاءة على دور المدينة الحضاري والموسيقي

فيصل خرتش

يعدّ هذا الكتاب “حلب بيت النغم”، تأليف جميل ولاية، محاولة جادة لإظهار دور حلب الحضاري والموسيقي، من خلال رصد تاريخي إلى الوقت الحالي، ويبدأ بالموسيقا العربية عبر التاريخ، وينتهي بحلب بيت النغم، فالحلبيون يتمتّعون بأذن موسيقية مرهفة، وهم مغرمون بالموسيقا، فللنساء مجالس طرب كالرجال تماماً، تقدّم فيها ضروب النغم والغناء والرقص.
وقد أضاف الحلبيون إلى إنجازاتهم بعد ظهور “الفونوغراف” صناعة الأقراص (الأسطوانات) التي تختزن الصوت في خطوطها، وأطلق عليها صاحبها “شركة سودوا الوطنية” في عام 1925، ويرافق الإنشاد الديني بعض الآلات الإيقاعية كالرق الخالي من الصنوج والخليلة والمزهر، ويضاف إليها المولوية وآلة الناي.
وغناء القصيدة المرتجل، يحدّد المطرب نغمة الوصلة، وعلى ضوئها يتمّ اختيار القصيدة لتكون من حيث مضمونها تتماشى مع إيحاءات تلك النغمة وقدراتها التعبيرية، ثم ينتقل المطرب إلى مقام جديد، مجدّداً لحن جملة المردّدين، بينما يسوح هو في عوالم مشاعر جديدة، والقصيدة الملحنة هي التي استمدت قالبها من أسلوب الغناء المرسل، من هذه التي كان يلحنها كميل شامبير وأحمد الإبري، والموّال السبعاوي الذي يعتمد في بنائه على شطرات سبع، ويُسمّى الشرقاوي والبغدادي ويتكلم عن أفكارهم ومعتقداتهم، ولواعجهم ومسرّاتهم، واشتهر به مصطفى قرنه.

وقد تطوّرت الأغنية، بدءاً من الأغنية الخفيفة إلى المونولوج، وأحدثت أشكال جديدة لها “وابعت لي جواب” كتب كلماتها حسام الدين الخطيب، ولحنها بكري الكردي، وغناها صبري مدلل في نهاية أربعينات القرن العشرين، وأعادها صباح فخري إلى الحياة، وهي الآن إحدى الأغاني التي يردّدها عدد كبير من المطربين والمطربات.
وتتكوّن الوصلة الحلبية من فقرات ثلاث، الأولى: الموشحات، والثانية: الليالي والقصيدة، والثالثة: وصلة القدود والأغاني المتوارثة والموال، وقد أوجد الحلبيون منذ القدم طقوساً يستجدون من خلالها الإله ليرفع غضبه عنهم ويسمح بإرسال الغيوم، لكي ينزل المطر، ومن تلك الطقوس إرسال الأطفال ليطوفوا في الشوارع، وهم يردّدون:
الغيث بالّله الغيث نحنه زغار… منّا خبيز.. (زغار صغار)، ثمّ ينضم الكبار إليهم، ويخرجون إلى ظاهر المدينة، ولا شكّ في أنّ من يسمع فصل “اسق العطاش” يطير في جوّ من الانشراح والطرب، فأوّله تضرع يستدعي انتباه السامع وتيقظه ليلتجئ إلى واجد الوجود الذي بيده كلّ شيء، ونغماته في مقاطعه كلها متراصة ومتناسقة ومتجانسة، ولا وحشة ولا غرابة، بل كلّها أنس وشمول وطرب، ثم تتسلل أدواره وألحانه من طور إلى طور ومن وزن إلى وزن، وينتقل خلالها السامع من يقظة إلى نشاط، ومن نشاط إلى حركة، ومن حركة إلى هياج، فينتهي الفصل إلى مشهد من أجمل مشاهد الفن وأبدعها.. إنه الرقص المعروف برقص السماح.
والأجيال الجديدة عملت نقلات أخرى، اجتازت الحدود إلى القريب الأقرب، وأخرى إلى البعيد والأبعد.
يُذكر أنّ جميل ولاية ممثل ومخرج تلفزيوني، ساهم وأخرج عدداً من الأفلام القصيرة عن المكرمين في مهرجان حلب عام 1997، له من الكتب “حلب.. أزمان وألحان”، بالإضافة إلى “حلب بيت النغم”.