دور الجنوب في صياغة النظام العالمي الجديد
هناء شروف
مدفوعة بموجة الثورة الصناعية الرابعة، تركّز دول الجنوب العالمي على التعاون التكميلي والتنمية المشتركة وتتبنى بنشاط الابتكار التكنولوجي وفرص التنمية وتهدف إلى إنشاء نظام بيئي للتعاون الدولي أكثر إنصافاً يساعد في توجيه العلاقات الدولية والحوكمة العالمية.
لا تزال هناك فوارق كبيرة في التنمية بين الشمال العالمي والجنوب العالمي، إذ تواجه التنمية المستقبلية للجنوب العالمي العديد من التحديات، أهمّها التنمية المستدامة وهي المفتاح لحل القضايا العالمية الراهنة. ومع ذلك يمكن للقضايا التاريخية مثل النزاعات الحدودية الوطنية والتمييز العنصري أن تخلق صراعاتٍ بين دول الجنوب العالمي ما يصرف الانتباه عن قضايا التنمية المستدامة. لذلك تحتاج بلدان الجنوب العالمي إلى مواصلة ترسيخ الإجماع بشأن تعزيز التنمية وتجنّب الانحراف عن مسارها بسبب القضايا الساخنة المفاجئة. في السعي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة لا بدّ من زيادة الدعم للتنمية المؤسسية والتعاونية لدول الجنوب العالمي.
وفي المقام الثاني، هناك حاجة إلى الحذر من قيام بعض الدول المتقدمة بتقسيم الجنوب العالمي من خلال ما يسمّى الحيل القائمة على القيمة وتضليل الاتجاه. تركّز الضجة الحالية على “الاختلافات بين الشمال والجنوب” أو ما يسمّى تأثير الجنوب الصاعد في النظام العالمي و”الاستعمار الجديد”. والغرض من ذلك هو بناء حواجز عمداً ضد العولمة، وبالتالي قطع سلاسل العرض والصناعة والحفاظ على الهيمنة التكنولوجية القائمة والفوارق التنموية. على سبيل المثال في السنوات الأخيرة وبدعم من الولايات المتحدة، سعت الهند إلى تشكيل صورتها كزعيم للجنوب العالمي في آليات التعاون الإقليمية أو المتعدّدة الأطراف ما جلب تحدّياتٍ جديدة للتضامن بين بلدان الجنوب.
ومن الأخطاء الشائعة في العلاقات الدولية مقارنة الظواهر الاجتماعية لمختلف البلدان دون النظر إلى الاختلافات في نقطة البداية التاريخية ومستويات التنمية في عمليات التحديث بين البلدان المتقدمة والنامية. ورغم أن هذه المقارنات تفتقر إلى أساس مشترك وبالتالي هي غير عقلانية، فإنها كثيراً ما تستخدم من بعض الدول المهيمنة كأداة لانتقاد البلدان النامية. على سبيل المثال بعض البلدان المتقدمة تهمل احتياجات البلدان النامية من الموارد والتكنولوجيا في عملية التنمية وتنتقد حكوماتها لتقاعسها عن العمل، وفي الوقت نفسه تحظر أو تقيد تصدير التكنولوجيا التي يمكن أن تساعد في التنمية الخضراء.
يحتاج الجنوب العالمي إلى تعزيز المزيد من الابتكارات المؤسسية التي تسهل التنمية المتباينة وهذا ينطوي على ثلاثة جوانب على الأقل، أوّلها أنه في الماضي كانت دول الجنوب العالمي تفتقر إلى الآليات والقدرات اللازمة. فمن ناحية على الرغم من أن دول الجنوب العالمي قامت ببناء العديد من المنصات والآليات للتنمية التعاونية إلا أن مشاركتها في التنمية والحوكمة العالمية لا تزال مجزأة مقارنة بآليات التعاون الدولي الحالية التي تهيمن عليها الدول المتقدمة. ومن الأمثلة على ذلك آلية دعم تمويل الديون بين بلدان الجنوب.
ومن ناحية أخرى اتبعت الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة لفترة طويلة “معايير مزدوجة” بشأن الشؤون الدولية وقضايا التنمية. ولا يؤدّي هذا إلى الحفاظ على مصالحها الخاصة فحسب، بل يعكس أيضاً افتقار الدول المتقدمة إلى الفهم الصحيح للاحتياجات التنموية المختلفة لدول الجنوب العالمي الأقل نمواً. ولمعالجة هذه المشكلة من الضروري تعزيز التعاون الدولي الذي يعكس بشكل موضوعي متطلبات التنمية لدول الجنوب العالمي ويدمجها في المنصات والآليات ذات الصلة حتى يتمكّنوا من المشاركة في الحوكمة العالمية.
وهناك حاجة ثانياً إلى إيلاء اهتمام وثيق لعدم التوافق بين آليات التعاون الدولي القائمة والاحتياجات التنموية لدول الجنوب العالمي مثل أولويات التنمية الصناعية وأساليب المساعدات غير الملائمة للاحتياجات التنموية لهذه الدول. ومن الجدير بالذكر أنه عندما يتمتع الجنوب العالمي بعناصر إنمائية وفيرة نسبياً مثل تراكم رأس المال والتجمعات الصناعية الواسعة النطاق والموارد الأقل تطوّراً تجارياً والعدد الكبير من السكان، فمن الممكن وضع معايير وأنظمة جديدة للتعاون بين دول الجنوب بناءً على هذه العناصر. وفي ضوء ذلك ينبغي لدول الجنوب العالمي أن تركّز على إثراء موارد التنمية المختلفة وتعزيز مشاركتها المنهجية في الشؤون العالمية.
وفي ظل الظروف الجديدة للتطور التكنولوجي ينبغي، في المقام الثالث، بذل الجهود لإنشاء آليات تعاونية تؤدّي إلى تنمية سياسية واقتصادية دولية عادلة ومعقولة. وسواء كان الأمر يتعلق بالتعاون بين الشمال والجنوب أم التعاون فيما بين بلدان الجنوب، فإن آليات التعاون التقليدية لم تعُد قادرة على تلبية الاحتياجات الإنمائية للبلدان في ظل الظروف المتغيّرة بسرعة للتطوّر التكنولوجي. إن عولمة الإنتاج والتوزيع والتداول المتسارع للموارد والمعلومات والثورة التكنولوجية الجديدة، تحدث تغييراتٍ عميقة في التنمية العالمية من شأنها أن تؤثر في تطوّر العلاقات الدولية بطرق غير مسبوقة. ولمعالجة هذه القضايا وتعزيز التعاون بين بلدان الجنوب وتشكيل العلاقات بين الشمال والجنوب في اتجاه جديد، يتطلب الأمر المزيد من التصاميم المؤسسية والإصلاح الشامل للمفاهيم.