الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

صنميّة معاصرة

عبد الكريم النّاعم

في جلسة مع ذلك الشيخ الجليل، قلت له: “إلى أين يريد أن يصل بنا هذا التقدّم التكنلوجي الغربي، الخالي من أيّة مسحة إنسانيّة، عدا ومضات ما تكاد تبين”؟!!

قال: “يقول المناضل والمفكر الكبير الراحل غاندي عن الغرْب إنّه يَعبد، في الحقيقة، إله التقدّم والمال، ولا يعبد الله..”.

قاطعتُه: “ثمّة بين ظهرانينا مَن يصلّون، ويؤدّون واجباتهم الدينيّة، من جميع الأديان الموجودة في مجتمعنا، وليسوا أفضل أخلاقيّاً، وروحيّاً، من الذين وصفهم غاندي”.

قال: “تلك صنميّة من وجه آخر، لأنّ غاية الدين أنْ يجعل الناس أقرب إلى مكارم الأخلاق، “إنّما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق” (حديث نبوي).

قاطعتُه: “مَن يدقّق في ذلك يجد الغرب، فسلوك مجتمعاته أكثر قرباً من مكارم الأخلاق، وما ينفع الناس”.

قال: “وهذه مفارَقة ملحوظة، ولا تنس أنّه يطبّقها، فيجيئ تطبيقها خدمة لتثمير المال والتقدّم، هنا لا بدّ من ملاحظة أنّ التقدّم ليس سيّئاً في ذاته، بل هو يسوء حين يجعل نتائجه خادماً للمال، والمال في ذاته من ضروريات الحياة، ولكنّه يتحوّل إلى طاغوت، وصنميّة، تتكدّس بين أيدي الذين يستغلّون الآخرين، ويستعبدونهم، استعباد الأرقّاء، ولكنْ بأساليب حديثة”.

قاطعتُه: “ورغم ما هو واضح من صنميّة في حضارة الغرب فإنّه قِبْلة تهفو إليها القلوب، ويتمنّى معظم الذين يعيشون في بلدان طموحها النموّ، أن يذهبوا إليه للعيش فيه، لتوفّر سيادة للقانون، ورعاية للناس”.

قال: “لقد أسميْتَها (حضارة)، وثمّة مّن يراها إنّها (مدَنيّة)، تُعنى بتنمية المؤسسات الماديّة للمجتمع، وتطوّرها، أمّا (الحضارة) فتشمل كلّ ما له علاقة بالتطوّر المعنوي، والخُلُقي، والنفسي للإنسان..”.

قاطعتُه: “وتُهمل الجانب الماديّ الضروريّ للحياة؟! إنّ الفقر، والاستغلال، والتعدّي على حقوق الناس الماديّة، وعلى كراماتهم، وعلى لقمة عيشهم، ليس من الإنسانية في شيء، فكيف يمكن أن يكون (مدنيّاً)؟ إنّه منتهى التوحّش البشريّ، الذي هو أخطر من توحّش الوحوش”.

ابتسم ابتسامة خفيفة وقال: “لا شكّ في ذلك، ولكي يكتمل مُثول (الحضارة)، لا بدّ من الاهتمام بلقمة العيش، وبالكرامة، وبالحريّة التي يصونها القانون العادل، وبالكفاية التي لا يحتاج فيها الإنسان للجزع من جوع، ومِن مشقّة تأمين رغيف الخبز، والسّكَن، وهي حالة قلّما تحقّقت إلاّ في فترات كأنّها ومضات في تاريخ البشريّة، تُغري المجتمعات للوصول إليها، أذكر على سبيل المثال فترة زمن عمر بن عبد العزيز التي رُوي عنها أنّها لم يوجد فيها مَن يستحقّ (الزكاة)، وللأسف فإنّ عمره كان قصيراً، ويرجّح البعض أنّه مات مسموماً، سمّه المتنفّذون من الأمويّين للتخلّص منه، ومن نهجه، ليُمسكوا بمفاتيح السّلطة، والمال، واسترقاق رقاب العباد”.

قلت: “وهذا النّهج غير الخيّر الذي تفضّلتَ بذكره هو الذي ساد، وما يزال مستمرّاً، حتى لكأنّه قدَر من الأقدار”.

مسح لحيته الخفيفة وقال: “ليس قدَراً، ولكنّه ظاهرة، ولو كان قدّراً لَما وردتْ تلك الأحاديث التي وردتْ عن أكابر الصحابة، ولَما حاربها شجعانُهم، ودفعوا أثمانها نفْياً، وقتْلاً، وتشريداً، وأنت تذكرها، ولكنّنا نستعيد بعضها من باب التأكيد، والتّرسيخ، “ما ضرَبَ اللهُ عباده بسوْط أشدّ من الفقْر”، “إذا ذهب الفقرُ إلى بلد قال له الكُفرُ خذني معك”، بمعنى أنّ الفقر يدفع إلى كلّ محرّم، كالسّرقة، والكذب، والدّعارة، ومختلف الرذائل، للوصول إلى لُقمة العيش التي لا قوام لاستمرار الحياة إلاّ بها، وهذا يحمّل الأنقياء، وذوي الكفاءة والقدرة، ولاسيّما الذين هم في مواقع يقدرون فيها على الفعل، مسؤوليّات جسيمة، أمام الله، وأمام التاريخ، وأمام العباد”.

aaalnaem@gmail.com