مطر في نفق نصْف مضاء
غالية خوجة
قطرات المطر تعزف لحنها الأبدي، وتغرس مع كلّ قطرة عشبة خضراء تنتظر الأطفال، ووردةً حمراء لأرواح الشهداء، وتغوص في التربة أكثر لتغني مع جذور الأشجار ذكرياتها الآتية من نفقٍ نصْف مضاء يسمونه الآتي.
ما أصعب للواقف في منتصف النفق ألاّ يرجع وألاّ يتقدّم! وما أصعب أن تقف القطرة في الهواء فلا تهطل ولا تصعد، تماماً، مثل دموع طفلة تبكي لفقدانها أمها وأبيها، ومثل حسرة إنسان جائع في مكان ما من الكرة الأرضية! لكن، ماذا لو توقفت الفصول عن الدوران، ونسي المطر قطراته في السماء؟.
ربما، ستذكر اللحظة أن امرأة ضحّتْ بنفسها من أجل أطفالها الأيتام الذين لم ترهم جميعاً قبل أن تموت، وأن أباً ما زال يغرس دموعه في قلبه ليبتسم لعائلته، وأن الأرض التي تضمّ أكفاننا ستخرج من هذا النفق يوماً ما، ولا أحد يعلم هل ستخرج من الظلمة أم من مجرة التبانة!.
أو..، ربما، لن يذكر العاشق أنه عبر من أوردته ليلقاها، فكتب قصيدة مصابة بالنسيان، وتركها على الشاهدة مضمومة بقطرات المطر.
من قال بأنّ الموسيقا لا تلتصق بذاكرة النباتات والمعاني والجدران والأشياء؟ وإلاّ لما كتبها ماركيز في رائعته “مائة عام من العزلة”، ولما رآها آرثر رامبو في “المركب النشوان”، ولما لمسها محمود درويش في “لماذا تركت الحصان وحيداً”، ولما أصيب المبدع منّا بتلك العزلة المتحوّلة إلى مطر في لوحة لن يرسمها أحد.
النفق نصْف المضاء لا يرجع ولا يتقدّم، لكنه يهتزّ وهو يحاول الانفلات من نفسه دون أن يدرك أنه سينهار إلى جهة ما، وأن الضوء يتحوّل من شعاعيّ إلى مائيّ وترابيّ وناريّ، فتتفتّح اللحظة الممطرة نرجساً معطّراً بالكلمات البيضاء وهي تنتصر على الكلمات السوداء.
سيبدو أن النفق نصْف المظلم يتكاثر خلفنا مثل جبال ثلجية يباغتها الاحتباس الحراري، وأن نصْفه المضاء ما زال في عزلته بعد آلاف السنين، إلاّ أنّ قطرات المطر ما زالت تعزف آلام البشر، وتزرعها عشبة، ووردة، وشجرة، وغيمة، ومحبة تهرب من الحروب والدمار إلى مجال كونيّ يحضن عناصره بالرحمة والسلام والإيثار.
من لا يثق بأنّ الريح إذا ما لامست القلوب صارت القلوب عواصف، ليجرّب كيف يترك قلبه في الرماد لتلامسه النسائم، فيشتعل معها، ويطلب المزيد من جمر المحبّة الأبيض.
لن يظلّ الوقت نصْفَ مظلم ونصْف مضاء، ولن يثبت النفق في مكانه إلى الأبد، ولن تستطيع العرّافات امتلاك الغيب، وإلاّ ماذا يفعل الحاضر وهو يصير قطرات مطر تزرع الأرض من جديد، وتترك لصدْعها أن يردّد مع الرجْع ما قرأه العالم من رقيماتنا الأولى: “حطم سيفك وتناول معولك واتبعني لنزرع المحبة والسلام في كبد الأرض”.
قطرات المطر ستظلّ تعزف كلمات عنات وبعل، وتغوص في نبضاتنا رغماً عن النصف المظلم ومستنقعاته الموغلة في رمزية “فاوست” الشاعر غوته، وتشرق بألحان مطرية جديدة تنتشر سنابل تصير خبزاً للجائعين، ووروداً على قبور الشهداء وفي قلوب العاشقين، وتنبت الغيوم من أرضنا الصابرة لتكلل الأمهات والجرحى بموشحات الغار، وتكلل الأجيال بحكايات الأجداد، وتكلل النفق بضوئنا المنسوج مع الآتي.
الضوء يقطر مطراً، والنفق محتار كيف يرجع أو يتقدّم، وخلفية المشهد تشبه زجاجاً شفافاً يتمنى لو يكون حطباً في مدفأة ليدفئ أطفالاً يرتعشون من البرد، أو يكون دفتراً وقلماً لأطفال خانتهم الحياة فتاهوا في الشوارع، أو أن يكون ممحاة عظيمة تمحو آلام الناس، خصوصاً، أولئك الذين يعانون من الاحتلال والإرهاب.