دراساتصحيفة البعث

الجنوب العالمي ضدّ الإبادة الجماعية

طلال ياسر الزعبي

بعد جمهورية جنوب إفريقيا التي قدّمت شكوى رسمية لدى محكمة العدل الدولية في لاهاي تتهم فيها “إسرائيل” بارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة المحاصر، ها هو أحد أقطاب الجنوب العالمي الأخرى يتهمها بشكل مباشر وصريح في قمّة الاتحاد الإفريقي الأخيرة في أديس أبابا بالتهمة ذاتها، حيث اتّهم الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا “إسرائيل” بارتكاب “إبادة” بحق المدنيين الفلسطينيين بغزة، مشبّهاً ما تقوم به “بمحرقة اليهود” إبان الحرب العالمية الثانية.

الاتهام ليس هو المشكلة بحدّ ذاتها، وإنّما المشكلة أن دولة من دول مجموعة بريكس تمثّل الجنوب العالمي بامتياز تطلق مثل هذا الاتهام بحضور جزء كبير من دول الجنوب العالمي التي تعاني تمييزاً هائلاً من الشمال الإمبريالي الصهيوني بالمحصّلة، بمعنى أن جميع هؤلاء إن لم يكونوا متوافقين على هذا الاتهام قبل الجلسة، فإنهم سوف يضطرّون إلى معاينة هذه الاتهامات والبحث في خلفياتها، وهذا الأمر لا يستسيغه الصهاينة الذين عملوا لأكثر من قرن من الزمان على طمس هذه الحقائق ونشر بروباغندا خاصة يحاولون من خلالها تزوير جميع حقائق التاريخ لمصلحة صناعة “دويلة بني إسرائيل” على الأرض التاريخية لفلسطين تحت عنوان “منح أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، بينما تتم صناعة كيان في قلب العالم يكون قاعدة متقدّمة للغرب أو حاملة طائرات له، لغرض الهيمنة والسيطرة على العالم عبر السيطرة على أهم الممرات البحرية وطرق التجارة والتدخل في حركة التجارة العالمية.

فما يحدث في قطاع غزة ليس حرباً، وإنما إبادة، وهذا القول يضع جميع العالم أمام حقيقة مفادها أن مَن يتعرّض للإبادة هو صاحب الأرض الحقيقي الذي اجتثّ من أرضه، بينما مَن يمارس الإبادة هو الكيان المحتل الذي استولى على الأرض، وبالتالي فإن أيّ إجراء يقوم به الشعب الواقع تحت الاحتلال هو فعل مقاومة كفلته الشرعية الدولية والقوانين الإنسانية، أما الفعل الذي تقوم به “إسرائيل” فهو مُدان على أيّ وجه أتى، وهذا ينسف جميع التضليل الذي عمل الكيان عليه منذ عملية طوفان الأقصى المباركة من خلال تصوير العملية على أنها فعل إرهابي بينما الأرض التي تمّت عليها هذه العملية هي أرض محتلة ومقاومة المحتل أمر مشروع وفق القانون الدولي.

وإضافة إلى هذا الجانب الخطير من تصريح لولا دا سيلفا، هناك أمر آخر غاية في الأهمية، هو أن الجنوب بأكمله بدأ يخرج من فكرة الوقوف على الحياد حول كل ما تمارسه الولايات المتحدة في العالم من ترهيب لمنعه من الإدلاء برأيه في القضايا المصيرية، فالإدانة هنا مزدوجة للكيان الصهيوني ومَن يحميه وهو الولايات المتحدة والغرب عموماً.

وإذا كان هذا الكلام قد تمّ إطلاقه على مسمع القادة الأفارقة مجتمعين، فإن هذا يعني أن الجو العام ربّما يشير إلى توافق حول هذه الفكرة لدى الجميع، ولكن كان على الرئيس البرازيلي اليساري أن يطلق مثل هذا التصريح، ممثّلاً لليسار العالمي كله وهو هذا الجنوب الذي بدأ يخرج تدريجياً من العباءة الغربية، وبالتالي ليس غريباً أن يخرج قائد آخر في المستقبل القريب من قادة إفريقيا ليعلن صراحة أن الاتحاد الإفريقي برمّته يدعم مقاومة الشعب الفلسطيني المشروعة للاحتلال الصهيوني، وهذا سيكون مؤشّراً خطيراً على انحسار الهيمنة الأمريكية على العالم والشروع في تشكّل نظام عالمي جديد عنوانه الجنوب.

وقد شخّص دا سيلفا ما يحدث على أنه ليس حرب جنود ضد جنود.. إنه حرب بين جيش على درجة عالية من الاستعداد، ونساء وأطفال، وبالتالي فهو مشابهٌ تماماً لما قام به هتلر عندما قرّر “أن يقتل اليهود”، وهنا مكمن الخطورة التي تستشعرها “إسرائيل” جيّداً حيث يساوي بين الصهيونية والنازية، وهذا بالمقياس الغربي يسمّى “معاداة للسامية”، وإذا أصبح مثل هذا الكلام مستساغاً لدى الجنوب العالمي الذي يمثّل أغلبية العالم، فإن المعاداة ستكون رأي الأغلبية، وبالتالي ستصبح عدم معاداة السامية على هذا النحو هي الاستثناء، وهذا سيقود بالمحصّلة إلى تمرّد كامل من الجنوب على الشمال الذي سيجد نفسه في نهاية المطاف وحيداً.

ومثل هذه التعليقات تضرب وتراً حسّاساً في “إسرائيل”، ليس لأنها تساوي فقط بين الصهيونية والنازية، بل لأنها تكشف العلاقة الحقيقية بين الطرفين، وهي أن المنظّمتين تملكان الأيديولوجيا نفسها، ومن هنا فإن مثل هذه المقارنة تفتح أعين العالم على الحقيقة التي تحاول الصهيونية طمسها منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية.

ومن هنا جاءت إدانة “إسرائيل” هذه التصريحات متّهمة إيّاها بمعاداة السامية والاستخفاف بالإبادة الجماعية النازية لليهود خلال الحرب العالمية الثانية، في محاولة ليس لزجره عن ذلك كما يظنّ بعض المراقبين، لأنه قال كلامه عن سابق إصرار وتصميم، ولكن في محاولة للإبقاء على مستوى من الرعب لدى الحاضرين الأفارقة يمنعهم من سلوك الطريق ذاته خوفاً من وصمهم بمعاداة السامية هم الآخرين.

ومن هنا، فإن أهمية هذه التصريحات الصادرة عملياً من أعماق الجنوب العالمي المهمّش تكمن في أنها أكبر مؤشّر على أن العالم بدأ يسير في اتجاه معاكس تماماً أهمّ نتائجه أن هذه الأغلبية المهمّشة ستكون لها الكلمة الفصل في ولادة نظام عالمي جديد وإقصاء الهيمنة الغربية على العالم.