عمرها مئات السنين وهي حاضنة البساتين.. إغفال تعويض انهدامات وانجرافات مدرجات الجبال يقلق الفلاحين
علي بلال قاسم
مئات السنين كانت كفيلة بأن يستثمرها أبناء الريف لتطويع الجبال وتحويلها إلى مدرجات مستصلحة ومستثمرة ومزروعة، بما يتناسب مع طبيعة المناخ والبيئات المتنوعة، لتتحوّل بطون وظهور وأكتاف المرتفعات “بالمعاول سابقاً وبالمكننة لاحقاً” من مساحات جرداء أو شبه برية إلى أدراج مهذبة ومشذبة على مدّ النظر وحواكير مترامية، لا تخفيها سوى الأشجار المثمرة من تفاحيات ولوزيات وزيتون وتين وكروم، أو تلبسها مسطحات الخضراوات والمزروعات “المكشوفة أو البلاستيكية”.
اليوم ثمّة مشهدية من النشاط الإنتاجي والاقتصادي بشقيه الزراعي والحيواني، مسرحها تلك المساحات الضيقة “بوحدة العرض” والممتدة لعدد من الكيلومترات “بوحدة الطول” التي استغل فيها أصحاب الجبال كل متر لزراعة غراس تتمسّك بكل حفنة من تراب مهدّدة بالانجراف والانحدار لولا عامل الدعم والتدعيم بحجارة الأرض، التي لولاها لا يمكن الإنجاز أو الاستفادة من طبيعة الأرض المتعامدة والمتحدرة بخطورة كبيرة في بعض المناطق، ليبدو الوجع كبيراً والمعاناة مستمرة كل عام، حيث لا يمرّ فصل الشتاء دون أن تتسبّب الأمطار والسيول وأشكال تدفق المياه من أعلى الجبال إلى أسفلها بانهدامات وانجرافات كبيرة جداً تأخذ معها الحجر والشجر، وتتسبّب المواسم المطيرة “كالتي شهدناها مؤخراً” بخسائر كبيرة، حيث دفنت أو اقتلعت مئات الأشجار وخرّبت المزروعات وفتّتت وبعثرت الشجيرات.
هو مصير يتكرّر كل عام وإن بنسب مختلفة، لتكون المأساة التي تكلف أصحاب المدرجات الكثير من التعب والخسائر التي لا تتوقف على خسارة الأشجار من جذورها بل لتداخل الحيازات والأملاك مع بعضها، حيث يكون جيران الأراضي أمام تحدي الإنزياحات وهبوط المدرجات العلوية باتجاه الأسفل واختلاط الأراضي مع بعضها، ما يتطلب أشهراً لا بل سنوات من العمل والتكاليف لإعادة الأرض كما كانت، لتأتي الصرخات العالية: أين نحن من تعويضات الحكومة ممثلة بدوائر الجفاف والكوارث الطبيعية في مديريات الزراعة في المحافظات المتضررة التي تشتهر جبالها بالمدرجات الزراعية، إن كان في حمص أو مصياف أو طرطوس واللاذقية.
في تجربة أهالي قرية فاحل لا يخفي الفلاحون والمزارعون استياءهم من إغفال مسألة تعويضهم عن خسارة مدرجاتهم جراء الأمطار والسيول السنوية، والاكتفاء بتعويض محاصيل الأشجار عندما يضربها برد الشتاء أو تلفحها حرارة الصيف، وعليه لا مكان لخسارة المدرجات التي تنتج غلالاً ومواسم بالأطنان تغزو السوق المحلية وتفيض للتصدير، تفاحاً وتيناً وعنباً وزيتوناً و… إلخ، وكلها تحققت بعدما أنتجت مئات السنين ميزة “السلاسل الجبلية” وغيّرت معاول “فاحل” –كما يقول رئيس البلدية المهندس سمير قاسم- منحنيات الجبال لتغدو المدرجات المخضبة والمخصبة.
ويضيف قاسم أنه في هذا العام وقعت الكثير من الخسائر في المدرجات بفعل الأمطار الغزيرة جداً والتي استمرت بالهطول لأيام متواصلة دون توقف، ما أدى لانجرافات كبيرة وعديدة تسبّبت بخسارة المئات من الأشجار وتهدم جدران المدرجات التي اشتغل عليها الأجداد، وتواصل الأجيال صيانتها وتجديدها وإعادة تأهيلها لضمان تثبيت وحفظ التربة معلقة وراء الحجارة المبنية بعناية وشطارة مشهودة عند أبناء القرية المهرة في عمارة “السلاسل الحجرية” بلا تسليح أو صبات بيتونية، إذ ترصف فوق بعضها بشكل هندسي متداخل يجعلها متينة وصامدة بوجه الظروف المناخية ومع ذلك –يضيف رئيس البلدية– لا قدرة على جودة البناء في مواجهة قوة السماء وفصول الأعاصير والرياح وكميات الهطول التي لا تتحمّلها جدران الحماية والتحصين، حتى ولو كانت “اسمنتية”، وهنا الخطورة بسقوط كتل ضخمة وعملاقة يصعب التعامل معها، أما الحجارة المنفردة فإعادة بنائها أسهل ومسألة سقوطها تكون منفردة وبأماكن محدّدة، إما لنقطة ضعف أو تجمع ضخم للمياه في مسارب وتجمعات ووديان تغذيها الجداول وتجعلها مدمرة.
هي إشكالية وتحدٍّ متواصل يتعلق بمعضلة التعامل مع جدران المدرجات التي تؤمّن وتحتضن أراضي الأشجار المثمرة وعلى رأسها التفاح، وهو المطلب الذي يتكرّر على لسان المزارعين: لماذا لا تشمل المدرجات بتعويضات الكوارث أسوة بالبيوت البلاستيكية وغيرها، وإذا كان هناك توجّه للتعويض للأشجار فقط، فالتعويضات لا تكفي، في وقت يؤكد أحد أكبر الفلاحين والمنتجين في قرى “جبل الحلو– ريف حمص الغربي” أن موسم التفاح يتحول من سيئ لأسوأ، بفعل الكوارث الطبيعية التي تصيب الأشجار والثمار، يضاف إليها الدمار الذي يصيب المدرجات مصدر الزراعة الوحيد في الجبال المنحدرة والعالية، وجلّها أنجز بقدرات واجتهاد وتكلفة أصحاب الأراضي أنفسهم دون دعم أو تمويل استصلاح، ولاسيما أن جزءاً كبيراً منها يصعب دخول “البلدوزرات” إليها لشدة انحدارها وخطورتها، ما حدا بالفلاحين لاستخدام الوسائل البدنية والبدائية “المعول– الفأس– الرفش”، مع التنويه بأن سعر ساعة البلدوزر صارت بنصف مليون ليرة.
من جانب آخر يلفت معظم مزارعي تلك القرى إلى أنهم لم يحصلوا على الأسمدة والمبيدات الضرورية للأشجار منذ فترة الإزهار وحتى القطاف، لذلك اعتمدوا على تأمين الأدوية من القطاع الخاص وهي غير موثوقة لأن مصدرها غير معروف، بالإضافة إلى ارتفاع أسعارها، وحتى الصيدليات الزراعية ليست أفضل حالاً، لأن القائمين عليها ربما يكونون غير مختصين بالهندسة الزراعية وهمّهم جني الأرباح فقط!.
وبالمحصلة.. فقد أصيبت الثمار بمرض دودة الثمر والجرب وغيرها من الأمراض الأخرى، كما أن الأسعار لا تتناسب مع كلفة الإنتاج المرتفعة، سواء لجهة الحراثة أو أجور النقل وثمن الأدوية، وهكذا أصبحت شجرة التفاح عالة على مالكها بدل أن تساهم في تحسين وضعه المعيشي، ما جعل الكثيرين يقلعون الأشجار لاستخدامها كوقود والتفكير بزراعة أشجار غيرها “زيتون- كرمة” لا تكلف زراعتها ما تكلفه أشجار التفاح!.