هل ستتوقف الحرب على غزة؟
ريا خوري
يبدو أن أنظار العالم أجمع قد اتجهت نحو غزة التي مرّت وما زالت تمرّ عليها حرب إبادة جماعية لأكثر من مائة وثلاثين يوماً، حيث العدوان العنصري الهمجي لا يماثله عدوان في التاريخ الحديث والمعاصر. تلك الحرب التي كشفت زيف مفاهيم الحرية الإنسانية والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان وحقوق الطفل والمرأة وحرمة الأماكن المقدّسة والآثار التي وثقتها منظمة يونسكو.
كل ذلك ترافق مع الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني الذي تم خداعه منذ عقود بالشعارات الطنانة. فقد خذلت الدول العربية الشعب الفلسطيني الذي بات يموت جوعاً وعطشاً على مرأى العالم أجمع والذي يرى أنه لا يلوح في الأفق حتى هذه اللحظة ما يشي بنهاية قريبة لمأساته الإنسانية المهولة. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل استمرّ بنيامين نتنياهو وحكومته بالتهديد باجتياح مدينة رفح، التي لا تتجاوز مساحتها خمسة وخمسين كيلومتراً مربعاً، والتي فرض عليها الاحتلال استقبال أكثر من مليون وستمائة ألف مهجّر ومشرّد من الفلسطينيين، الذين فُرض عليهم بالقوة مغادرة بيوتهم بعد تهديمها على رؤوس مئات العائلات.
لم يحدث مطلقاً في تاريخ الحروب العربية الحديثة والمعاصرة، في الوطن العربي، وربما في الحروب العالمية، أن تم حشر عدد كبير جداً من البشر، بحجم عدد النازحين والمهجّرين عنوة إلى رفح، في بقعة صغيرة، تفتقر إلى مكونات العيش الكريم، وتعاني نقص الغذاء والمياه والدواء والمأوى، ولا يوجد بها سوى عدد قليل من المستشفيات والعيادات الصحية، التي تعاني بشكل حاد نقص الإمدادات الطبية ومستلزماتها، وغياب الكهرباء، ونقص الطاقة بكل مشتقاتها.
وممّا لا شك فيه، أنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، في وضع صعب جداً كهذا، أن يتمكّن الأطباء، والفرق الصحية الأخرى، من القيام بمهامهم، حتى ضمن الحدود الدنيا من الشروط والظروف لنجاح عملهم.
إن استمرار العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية جاء بدعمٍ مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث شارك الرئيس الأمريكي جو بايدن في التخطيط للعمليات العسكرية مع لجنة الحرب منذ اليوم الأول لعملية طوفان الأقصى. وبالتأكيد لم يكن لحكومة نتنياهو الإرهابية مواصلة حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، دون ضوء أمريكي أخضر، ومساندة عسكرية وأمنية ولوجستية أمريكية مفتوحة، حيث يُقدّر عدد الشحنات الجوية التي توجّهت من الولايات المتحدة الأمريكية بآلاف الأطنان من الذخائر والمعدات، فضلاً عمّا تحمله السفن من مئات الأطنان من الأسلحة، وأعداد كبيرة من الجنود والخبراء والاستشاريين، ولا تزال الإدارة الأمريكية، تعد بالمزيد من المساعدات.
لم يتوقّف الأمر عند هذا، بل تعدّاه إلى أن تُفشل الولايات المتحدة مشروع قرار جزائرياً في مجلس الأمن الدولي لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهذه هي المرة الثالثة التي تستخدم فيها الولايات المتحدة حق النقض بمجلس الأمن منذ بداية العدوان الصهيوني الوحشي على قطاع غزة وأهله، ما عرقل المطالبة على الصعيد الدولي بوقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية، حيث حظي مشروع القرار بتأييد ثلاثة عشر دولة عضواً في مجلس الأمن الدولي مع امتناع بريطانيا عن التصويت. وكانت المندوبة الأميركية ليندا توماس غرينفيلد قد برّرت أمام جلسة للمجلس رفع الفيتو للتصويت على مشروع القرار، بأن طرح هذا القرار في هذا الوقت لم يكن مناسباً، لأنّ قبوله يشكّل تقويضاً لجهود تبادل المحتجزين، حسب تعبيرها.
لقد بدا للعالم أجمع، أن الاهتمام الأمريكي، منصبٌّ حالياً، على استعادة الأسرى لدى حركة حماس، أكثر منه على حياة المواطنين الفلسطينيين العزل. وللأسف فإن معظم حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في القارة الأوروبية قد أفصحوا عن مشاطرتهم لموقف الولايات المتحدة. فوزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك أعلنت صراحة على الملأ، ودون خجل أنّ أمن الكيان الصهيوني أهم من حياة المدنيين الفلسطينيين.
إنّ التهرّب من المسؤولية والتسويف في إطالة الحرب، تحت ذريعة القضاء على حركة حماس، لن يتضرّر منه سوى أهل قطاع غزة، الذين خسر كثير منهم منازلهم وممتلكاتهم، وقتل عدد كبير منهم، تحت وطأة القصف الجوي، وبات الأحياء منهم عرضة للجوع والحرمان والفقر المدقع، والأمراض المُعدية، وخسارة الأحبة. وليس من المنطقي أن يقف العالم صامتاً متفرّجاً أمام هذا الواقع الأليم، كما أنه من غير المقبول، وضع الأسرى في كفّة وجميع سكان قطاع غزة الذين ليست لهم علاقة أبداً بتلك العملية بالكفة الأخرى.
وليس من العدل هذا التدمير المبرمج للبنية التحتية لقطاع غزة، وليس من المنطقي أيضاً الاستمرار في الكلام المتداول وهو كلام استهلاكي، يتردّد باستمرار عن أهمية قيام دولة فلسطينية مستقلة، وعاصمتها القدس في حدود الأراضي الفلسطينية، التي احتلت في حرب 5 حزيران عام 1967. فمثل هذا الكلام، لا يوقف الحرب أبداً، ولا يوفر حماية للمدنيين العزل، ولا يمنع هدم البيوت على رؤوس ساكنيها. وما يهم الشعب الفلسطيني الآن هو وقف العدوان عليه، وليس وعوداً وهمية بقيام دولة فلسطينية مستقلة، لا ترفضها فقط حكومة الكيان الصهيوني اليمينية التي يقودها مجرم الحرب بنيامين نتنياهو والأطراف المتحالفة معه، بل إن معظم مكونات المجتمع في الكيان تُجمع على رفضها.
كذلك لم يتوقّف نتنياهو عن التصريح، حول رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، حتى لو كانت منزوعة السلاح، لتحسم الأمر. فالدعوة لقيام هذه الدولة، من وجهة نظره، هي دعوة لتكرار ما جرى في السابع من تشرين الأول الماضي، وتمكين حركة حماس من الوصول مجدداً إلى السلطة.
لم تتوقّف الولايات المتحدة عن تقديم المواعيد الوهمية للعرب بحتمية قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، التي بدأ الحديث عنها مباشرة بعد معركة حرب تشرين التحريرية عام 1973، وكرّرها من قبل، جميع الرؤساء الذين توالوا على الحكم: جيمي كارتر ورونالد ريغان، وجورج بوش، وبل كلينتون، وباراك أوباما، والرئيس الحالي جو بايدن، وبات الحديث عنها أشبه بالخيال.
إن قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، هو مهمّة وطنية وتاريخية، لن تكون منّة من قوة الاحتلال الصهيوني، ولن تفرضها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، التي كانت دائماً الحليف الأقوى للاحتلال الصهيوني، بل سيفرضها استمرار الكفاح الوطني الفلسطيني، بالضفة الغربية ومدينة القدس، وقطاع غزة. وهو كفاح ينبغي أن يكون مدعوماً من العرب جميعاً، قادة وحكوماتٍ وشعوباً. وحين يعجز الاحتلال، عن مواصلة مواجهة الشعب المحتل، سينسحب مكللاً بالهزيمة.
كل الدلائل تشير إلى أن حكومة الكيان الصهيوني اليمينية الراهنة المدعومة بأكثر العنصريين والمتطرفين، التي تعدّ اتفاقية أوسلو بين حكومة إسحق رابين، ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، خطيئة تاريخية كبرى، لن تقبل بقيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، أو تعترف بالقرارات الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، ومنها القراران 242 و388 اللذان يعدّان الضفة الغربية وقطاع غزة، ومدينة القدس أراضي محتلة بحكم القانون الدولي والشرعية الدولية.
المطلوب في هذه المرحلة الصعبة جداً أن تتوقف حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، وأن يُعاد إعمار القطاع، وأن يتركّز الجهد العربي، على تحقيق سلام آمن ودائم، يحمي الشعب الفلسطيني ويصون ممتلكاته وكرامته، ويمكّنه من حق تقرير المصير.