دراساتصحيفة البعث

ألمانيا.. هل ستسبح مع الناتو أم سيغرقان معاً؟

هيفاء علي

ليس هناك استعارة أفضل من تلك التي استخدمها محلل صيني لوصف حلف شمال الأطلسي عندما علّق على التصريح الأخير الذي أدلى به أمينه العام، ينس ستولتنبرغ، بأن الغرب لا يسعى إلى الحرب مع روسيا، ولكن يجب عليه مع ذلك “الاستعداد لمواجهة يمكن أن تستمرّ لعقود”، حيث شبّه ستولتنبرغ بمدير دار عزاء، لا يجني أي أموال في وقت السلم.

وباعتباره متعهّداً، يحتاج حلف شمال الأطلسي إلى الصراع وسفك الدماء من أجل كسب المال، ولذلك يزرع الخوف والذعر من أجل ضمان استمرار دوله الأعضاء في المساهمة في تمويل الجيش الأوكراني.

وقد ظهرت تصريحات ستولتنبرغ في مقابلة مع صحيفة “فيلت أم زونتاج” الألمانية بعد وقت قصير من المقابلة الشهيرة التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع تاكر كارلسون، التي أشار خلالها إلى أن روسيا لم ترفض التفاوض لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وتحدّث ستولتنبرغ نيابة عن البنتاغون دون أدنى شك عندما قال: “إن موسكو التي حققت موقعاً منيعاً في الحرب، ليست مهتمة بحرب واسعة النطاق لتحقيق أهدافها، لأنه في نهاية المطاف سيتعيّن على الغرب أن يتعايش مع روسيا”.

وحسب مراقبين، تم توقيت مقابلة بوتين مع كارلسون بعناية، حيث لم يتبقّ سوى أسبوعين تقريباً قبل أن تدخل الحرب عامها الثالث. لقد فاجأت “رسالة” بوتين بأن روسيا منفتحة على الحوار واشنطن، فمن جهة، يهيمن العدوان الإسرائيلي الراهن على عرض النطاق التردّدي لإدارة بايدن. ومن جهة أخرى، تتميّز الذكرى السنوية الثانية للحرب بانتصار مدوٍّ للقوات الروسية في ساحة المعركة في بلدة أفدييفكا الشرقية الاستراتيجية، وهي بوابة إلى مدينة دونيتسك.

وقد باتت محاولات القوات الروسية تصفية قاعدة أفدييفكا الكبيرة، التي تهدّد مدينة دونيتسك هي المفتاح لتأمين السيطرة الكاملة على المقاطعتين الشرقيتين من دونباس – دونيتسك ولوغانسك. ولم يؤدّ الاستيلاء عليها إلى تعزيز الروح المعنوية الروسية فحسب، بل أدّى أيضاً إلى تعزيز دونيتسك كمركز لوجستي روسي رئيسي للعمليات اللاحقة غرباً باتجاه نهر دنيبر. وعلى الصعيد السياسي، تؤكد أن القوات الروسية تتقدم حالياً على خط جبهة يبلغ طوله حوالي 1000 كيلومتر، بعدما تعرّض الجيش الأوكراني لهزيمة في أفدييفكا.

بناء على ذلك، وحسب المراقبين، لن تكون محاولة إعادة انتخاب جو بايدن سهلة إذا استمرّت مثل هذه الأخبار “المؤلمة” بالنسبة للغرب وواشنطن، ما يسلّط الضوء على خطورة كارثة سياسته الخارجية، في حين يواجه حلف شمال الأطلسي هزيمة مذلة أخرى بعد هزيمته في أفغانستان.

وخلافاً للتوقعات السابقة، أصبحت الانتخابات الأمريكية واحدة من أكثر العوامل المؤثرة في الصراع الأوكراني، ومن غير المؤكد ما إذا كان الكونغرس الأمريكي سيتحرّك نحو برنامج المساعدات العسكرية لأوكرانيا، ولا سيما أن العقبة الرئيسية دائما تتمثل في مجلس النواب، حيث يشكّل الجمهوريون الأغلبية.

وإلى جانب حقيقة أن رئيس مجلس النواب الجمهوري ليس في عجلة من أمره لطرح مشروع القانون الذي أقرّه مجلس الشيوخ، فإن الكونغرس يستعدّ أيضاً للعودة إلى السياسات الضريبية المحلية، وبالتالي فإن مشروع القانون الخاص بالمساعدات الخارجية يمكن ببساطة أن ينزل إلى الجزء الخلفي من قائمة الأولويات على جدول الأعمال التشريعي. وفي الوقت نفسه، تشير جلسة المحكمة العليا بشأن ترشيح ترامب إلى أن الشائعات التي تقول إنه قد يُمنع من الترشح للرئاسة هي مجرد تفكير بالتمني.

لقد بدأ التدفق المالي إلى أوكرانيا يتضاءل بالفعل، وبدأت الكآبة تخيّم على أنصار أوكرانيا في أوروبا، الذين اكتشفوا أخيراً أن كييف لا تفوز بالحرب.

وعليه، فإن الحرب بالوكالة التي يشنّها الغرب، في غياب هدف حربي محدّد بوضوح، تعني عدم وجود استراتيجية خروج أيضاً، كما أن فوز ترامب من شأنه أن يفضح الشركاء الأوروبيين بشكل خطير، وسيكون من الصعب للغاية على أوروبا سد الفجوة التمويلية، حيث تعهّدت الولايات المتحدة حتى الآن بتقديم 71.4 مليار يورو، أكثر من نصفها في شكل مساعدات عسكرية. أما الدولة الثانية فهي ألمانيا بـ21 مليار يورو، تليها المملكة المتحدة بـ13.3 مليار يورو، وتأتي النرويج في المركز الرابع. ومن عجيب المفارقات هنا أنه على الرغم من أن الدول الأوروبية الثلاث المانحة الرئيسية أعضاء في منظمة حلف شمال الأطلسي، فإن ألمانيا فقط هي العضو في الاتحاد الأوروبي. وألمانيا ليست كبيرة بالقدر الكافي لملء الفراغ الذي خلّفته الولايات المتحدة بمفردها. ولكن العقبة الأكبر التي تحول دون التوصل إلى استجابة أوروبية مشتركة تتلخّص في الافتقار إلى أرضية مشتركة بين فرنسا وألمانيا بعدما أصبحت العلاقة الفرنسية الألمانية الخاصة إلى حدّ كبير قطعة أثرية تاريخية، حيث يلاحق العملاقان في الاتحاد الأوروبي استراتيجياتٍ اقتصادية غير متوافقة فيما يتصل بالسياسة الضريبية والطاقة النووية، ويتباعد اقتصادهما، كما تتباعد سياساتهما واستراتيجياتهما الدفاعية.

فقد أعاد المستشار أولاف شولتز توجيه التعاون الدفاعي الألماني، متخلياً عن فرنسا لمصلحة الولايات المتحدة، وتحول الصراع على السلطة بين أكبر قوّتين في الاتحاد الأوروبي، الذي ترجع أصوله إلى الافتقار إلى الكيمياء بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وشولتز، إلى عداء يتجلّى في رؤيتين مختلفتين للعالم، حيث يتعارض مفهوم ماكرون عن “الاستقلال الاستراتيجي”، الذي يدعو أوروبا إلى عدم الاعتماد على القوى الخارجية في المجالات الحيوية التي يمكن أن تمنحها نفوذاً سياسياً، مع اعتماد ألمانيا التاريخي على المظلة العسكرية الأميركية، التي لا تحتاج إليها فرنسا. وبعد اجتماعه مع بايدن في البيت الأبيض، أشار شولتز إلى أن دعم الولايات المتحدة ضروري إذا أرادت أوكرانيا أن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها، مؤكداً الحاجة الملحّة لإرسال “إشارة واضحة للغاية” إلى بوتين.

من جهتها، تعمل الولايات المتحدة على إعادة تنشيط تحالفها مع ألمانيا وبولندا استعداداً للمرحلة التالية من الحرب في أوكرانيا، بينما تقف فرنسا جانباً، وبريطانيا في غيبوبة.

وبالتالي، من الواضح أنه إذا كان زيلينسكي يعتقد أنه قادر على الفوز في هذه الحرب، فإن الناتو يعتقد أنه سيفعل كل ما يلزم لتحقيق ذلك. “ولكن أموال المتعهّد تنفد واستمرار أنشطته يعتمد على إطالة أمد الحرب. هكذا تم رفع القناع عن السرد الغربي، إذ لم تكن هذه الحرب تتعلق بأوكرانيا قط، بل أصبحت صورة روسيا كعدو حجر الزاوية في وجود الناتو ووظيفته، ومن المؤكد أنه ليس من مصلحة ألمانيا تلقي الأوامر من متعهّد دفن الموتى”.

في السياق، كتب الناشر الألماني الشهير فولفغانغ مونشاو مؤخراً عن الارتباك العام في ألمانيا الذي يصاحب التغيّرات الجيوسياسية والاجتماعية، والذي يتجلى في الاقتصاد المتعثر، والتراجع المستمر عن التصنيع، والافتقار إلى استراتيجية ما بعد الصناعة للبلاد. ومن الواضح أن مصلحة أوروبا تتلخص في ضمان الدفاع عن نفسها وتحقيق السلام مع روسيا من أجل التركيز على الاقتصاد.

الألمان أنفسهم متضاربون بشأن هذه الحرب، حيث يشير مونشاو إلى أن شولتز ليس رجلاً يتمتع بالكاريزما أو الأفكار الكبيرة، ولم يعُد الرأي العام الألماني يثق به، موضحاً أن هناك أيضاً “مشكلة أعمق: إنها ليست شولتز حقاً، بل حكم ألمانيا الذي أصبح أكثر صعوبة بكثير”.