تجريب وعبثية وواقعية في عروض “دبا الحصن للمسرح الثّنائي”
نجوى صليبه
افتتحت فرقة “المسرح الحديث في الشّارقة” فعاليات مهرجان “دبا الحصن للمسرح الثّنائي” بدورته السّابعة في الشّارقة، بعرض حمل عنوان “بعض الأشياء” إخراج محمد جمعة، وتمثيل خليفة ناصر ورزان نجيب.
ويتناول العرض العلاقة بين الأنثى والرّجل والخلافات التي قد تكون بسيطة حيناً ومعقّدة حيناً آخر، ولا سيّما عندما يتعلّق بعضها بإثبات الوجود والرّغبات والكينونة، ما يعكّر صفو حياتهما ويحول دون متابعتها بسلاسة ومحبة وربّما شغف، فكلاهما يشدّ اللحاف إليه، ويبرر أفعاله وسلوكياته بما يتوافق وأهوائه، كما لو أنّهما من كوكبين مختلفين، لكن ماذا لو تبادلا الأدوار؟ ماذا لو أحبّا بعضهما أكثر وتخلّصا من كلّ العقد الاجتماعية والنّفسية وتعاونا لمواجهة كلّ التّحديات؟ ماذا لو فعلاً تبادلا الأيدي واشتغل كلّ منهما شغل الآخر؟.
أفكار يطرحها مؤلّف النّص فادي جرجس، ويقول: “عندما يكتب المؤلّف النّصّ يكون لديه فكرة، وهذه الفكرة تكبر وتنمو على الورق، ثمّ يتخلّى عنها للممثّلين، ومن ثم الجمهور وتكبر معهم.. نحاول تقديم الفكرة بطريقتنا ومن وجهة نظرنا، أو تقديم مفهوم يستطيع أي شخص أن يشرح ويفصّل ما يراه من وجهة نظره هو”.
أفكار دعّمها منفّذ الدّيكور ومصمّمه عيسى مراد بالكثير من الكراسي التي ترمز إلى الصّراع على السّلطة أو القيادة أو الحكم، وهي في هذا العرض قد ترمز إلى سعي كلا الشّخصيتين إلى السّيطرة أيضاً، وهذا ما توقّف عنده المشاركون في المهرجان خلال النّدوة التّطبيقية التي تلت العرض، ولاسيّما أنّ تحريك الكراسي ورميها كان مرافقاً لحالات انفعالية تعيشها الشّخصيتان، كذلك كانت المؤثّرات الموسيقية التي نفّذها حسين الأنصاري.
المخرج جمعة وخلال النّدوة قال مازحاً: “لقد ورّطني المؤلّف بنصّه، وأدخلني وفريق العمل في دوّامة كبيرة”، مضيفاً: “الجهد كان واضحاً، واشتغل الممثلان كثيراً، وكانا حريصين كلّ الحرص للوصول إلى هذه النتيجة”.
وفي اليوم الثّاني من المهرجان، كان الجمهور على موعد مع فرقة “1+1” والعرض المصري “ورقة طلبات”، تأليف مارشا نورمان وإخراج محمد عادل النّجار، المخرج المنفّذ أحمد عادل، وتمثيل ليلة مجدي ودعاء الزّيدي.
وينقلنا هذا العرض إلى صراع آخر، وهو صراع الإنسان مع ذاته أوّلاً ثمّ مع مجتمعه، إذ يقدّم لنا قصّة أمّ تزوجت في عمر صغير ولديها ابنة أصبحت أمّاً وتعاني ما عانته هي في شبابها مع زوجها وابنها، إنّها ترى مأساتها مرّة أخرى أمام عينيها، وتحاول الابنة الانتحار والخلاص من كلّ عذاباتها، وبدورها تعمل جهداها من أجل ثنيها عن ذلك بهدوء قاتل وسكون مريب، جعل البعض يظنّ أنّها عاجزة عن السّير، لكن ربّما كان القصد من هذا هو القل إنّها فعلاً عاجزة، لكن ليس عن السّير، بل عن اتّخاذ قرار الانتفاض والمجابهة.
تعتمد هبة الكومي مصممة الدّيكور في هذا العرض على الصّناديق المغلقة، ربّما في إشارة إلى أسرار ما تزال حبيسة، أو ربّما كانت منذ البداية تعطينا النّهاية وهي أنّ الأمّ فقدت ابنتها منذ فترة، وما تزال رهينة اللحظات الأخيرة التي جمعتهما.. حزن عميق تعيشه الأمّ وتكمّله الإضاءة التي أنجزها أبو بكر شريف والموسيقا التي قدّمتها شذى شريت.
وفي ردّه على استفسارات وتساؤلات الحضور، بيّن المخرج النّجار: “أحسّ أنّ النّصّ جثّة مدفونة لم نجدها، لكن كمخرج أسبق خطوةً لأراه وأتلقّاه وأبني العرض الذي يظهره أكثر”، مضيفاً: “التّلقي مختلف، لكن هناك تقاطعات كثيرة وملحوظات كثيرة لا فائدة من الوقوف عندها، بالنّسبة إلى فارق السّنّ بين الأمّ وابنتها، ما أردت قوله هو إنّ الاثنتين لديهما المشاعر والتّجارب ذاتها، وهما لا يشاهدان بعضهما، لذلك الصّناديق موجودة بينهما، وأي شيء آخر ذُكر هو عكس ما أردته تماماً، أمّا البداية المتأخرة والكتابة ووحدة العمل، فلدينا تجربة نعمل عليها منذ فترة، وهي مزج الواقعية الشّديدة في التّمثيل مع الصّورة المشتغلة على نفسية الشّخصيات والتّأثير في نفسية المتفرّج سواء بالعزلة أم الوحدة أم الحركة غير الواقعية، وسنحاول بعد هذا العرض أن نمزج بين الواقعية والحوار مع صورة غير واقعية، لكي نقترب من الجمهور في التّمثيل ونبتعد في الصّورة، وأحياناً هذا المزيج يركّز على النّفسية من دون الانتباه إلى أمور أخرى”، منوّهاً بأنّ الجمهور في مصر قسمان، الأوّل: مغرق في القديم، والثّاني: يريد شيئاً إلى جانب الطّعام”، مضيفاً: “أنا لا أريد خسارة الاثنين”.
“أصل الحكاية” عنوان العرض الكويتي الذي قدّمته فرقة “مسرح الخليج العربي” في ثالث أيّام المهرجان، وهو من تأليف وإخراج فيصل العبيد، وتمثيل سماح ويوسف البغلي، سينوغرافيا الدكتور فهد المذن وتأليف موسيقي ومؤثرات صوتية وليد سراب.
الفكرة التي يشتغل عليها العرض ليست جديدة، فكثير من الرّواة والقاصّين تحدّثوا عن علاقة الكاتب بأفكاره، لكنّ يختلف الأمر هنا من حيث طريقة الطّرح وتضييع المشاهد بين الواقع والخيال والمرض النّفسي، لدرجة أنّ الحديث عن هذا العرض بحاجة إلى حضوره مرّة ثانية وربّما ثالثة، أقول هذا على خلاف قول البعض بالمباشرة الفجّة، يقول المخرج: “أبحث عن تجربة جديدة، الاختلاف بين البيئات يفرض نفسه أحياناً، فالبيئة تؤطّرنا في البداية بقالب معيّن، وثمّ هدفنا الرّئيس هو صناعة مسرح بمفهوم مسرح، نحن نسعى إلى وجود منظومة إنسانية على المسرح، أي حركة الممثّل على الخشبة وصراخه جملة يساويها فعل وغضبه وحزنه كذلك، وفي النّهاية كلّ إنسان يشاهد العرض من زاويته، ربّما بعد زمن نلتقي ونقدّم العرض ذاته وتكون الملاحظات مختلفة، فقد يكون مزاج الحاضر الآن لا يساعده على قراءة العرض بشكل جيّد.. في الحقيقة أنا أخجل من الإجابة على بعض الأسئلة، لأنّي أخجل من فكرة أنّي لم أقدّمها على خشبة المسرح”.
ولعلّ حديث المخرج المغربي محمد الحرّ بعد عرضه “معلّقات” في اليوم الرّابع، يتوافق وبعض النّقاط التي أشار إليها العبيد، من حيث الحديث عن الإنسانية والحالات النّفسية، يقول الحرّ: “المسرح والفنّ بصفةٍ عامة تطوّر مع تطوّر الفكر الإنساني والتّكنولوجي، واستطاع استيعاب كلّ هذا التطور واستثماره إخراجياً، لكن في العالم العربي لا نزال متخلّفين في علاقتنا مع الممثّلين، ونطلب من المخرج أن يستغلّ كلّ هذا التّطوّر ليقدّم نصّاً إخراجياً، ونطلب من الممثّل فقط أن يكون جسداً وصوتاً”.
ويقدّم العرض الذي أدّته كلّ من هاجر كريكع وهاجر الحامدي حواراً وسرداً بين امرأة شابة تعيش في عصر السّرعة، وأخرى قادمة من الماضي، لتعيدانا بذلك إلى مسرح أيّام زمان، عندما يقف الممثّل خلف “المايك” ويقول قوله ثمّ يسلّم المايك لممثّل آخر، يبيّن الحرّ: “استخدام “المايك” ليس قصوراً في صوت الممثّل، بل هو محاولة للاقتراب من لغة الجمهور العربي الذي لا يقرأ ولا يذهب إلى المسرح بشكلٍ متواصلٍ، لكنه يتابع ما يُقدّم له من عبر الشّاشات، وأنّ الممثّل عندما يستعمل “المايك” يصل صوته بشكل أكثر هدوءاً، وتالياً من الممكن أن يتجاوب معه الجمهور”، مضيفاً: “المايك بسيط وهو قناع آخر يستخدمه الممثّل لكي لا يسقط في المباشرة، أمّا بالنّسبة إلى الفرجة والمسرح فهناك نقاش طويل، ويبدو أنّ الجمهور لا يقبل السّرد على المسرح، وما يزال هذا المفهوم غير دارج لدينا.. هذا اختيار شخصي لكي يكون لدينا تواصل مع الآخر ونوصل إليه شيئاً ما”، وينوّه الحرّ بأنّ محاولة الفنّ نسيان ما يجب مشاركته مع الآخرين ليس إلّا مضيعة للوقت، يقول: “أحياناً يستغلّ المخرج كلّ ما لديه لكي يقنع الجمهور أنّه متمكّن من أدواته، والمقصود هنا شيء بسيط ومختلف عن التّعقيد الذي تحدّث به البعض، نحن نحاول بكلّ بساطة الوصول بقليلٍ من المفردات لكي نتواصل مع الآخر، وهذا هو المبتغى، السّرد هو خيار كما قلت، لقد جرّبنا التّجريبي والعبثي وكلّ شيء، لكن هناك جمهور من حقّه مشاهدة ما يحبّ، والسّرد برأيي هو ديوان العرب، لذلك اعتمدت على الكتابة على الشّاشة”.
وبالسّؤال عن اهتمامه بقضايا المرأة، يجيب الحرّ: “عندما نحرر المرأة في ذهننا كرجال، نحن كرجال نتحرر.. النّصوص ليست نسوية، لكن أهتمّ بالنّصوص الإنسانية بشكلٍ عام”.
أمّا أعضاء فرقة “مسرح أكون” التي قدّمت العرض بالإضافة إلى الممثلتين، فنذكرهم في السّينوغرافيا والملابس مصطفى علاوي وفي الإدارة التّقنية عمر زاهد الذي يتشارك وعلاوي إدارة الخشبة أيضاً، أمّا إدارة الإنتاج فهي لأكرم الحامدي.
ليختتم العرض السّوري “لقاء” فعاليات المهرجان، وهو تأليف آلان كناب وإخراج عروة العربي وأداء آية محمود “يارا” وربا الحلبي “سلمى” التي تعود من السّفر لتقابل زوجة زوجها الأولى “ضرّتها”، وتبدأ الزّوجتان باسترجاع ذكرياتهما مع الزوج الغائب “فارس مراد” من أكاذيب وقهر وخداع، لينتهي صراعهما بالاتّفاق على بدء حياة جديدة يومي إليها خلعهما لكلّ الملابس السّوداء ومعها خلعنّ كلّ الماضي الحزين، وفي تفسير آخر للنّهاية هو الموت حزناً على شيء لم يكن لهما منذ البداية.
يبدأ العرض الذي قدّمته فرقة “تكوين” بانتظار صامت يستمرّ دقائق للشّخصيتين، وبديكور بسيط جدّاً يكاد لا يذكر، وهو كرسيان لا أكثر، ليبقى الاعتماد بالإضافة إلى الممثّلتين على عناصر أخرى كالإضاءة التي صمّمها بسّام حميدي والصّوت الذي كان بلمسات أنثوية حنان سارا على خلاف بقية العروض، أمّا تصميم الملابس فكان لريم الماغوط الغائبة الحاضرة.
العربي وفي حديثه للمشاركين والحضور بعد العرض، بيّن أنّ المسرح هو الإنسان وأنّ ما يعنيه بالدّرجة الأولى هو الممثّل، مضيفاً: “أعمل ضمن هذا المنهج، فالممثّل أكبر من كلّ الدّيكورات، عندما يكون حاضراً بصوته وأدائه، وهذه وجهة نظري، أتمنّى أن أكون أصبت بعض المتعة.. أحاول احترام المتفرّج لكي يحترمني”.
هي خمسة عروض انتقاها المهرجان وأنتجها خصيصاً لتضيء أمسياته الخمس برواياتها الشّائقة ـ بحسب ما ذكرت دائرة الثّقافة ـ ومشهدياتها الملهمة لتتجلى على خشبة هذه الدورة من المهرجان وتكون ذخراً وامتداداً لما تكتنزه ذاكرته من الجهود المبدعة التي عرفتها الدورات السابقة،