دراساتصحيفة البعث

مجزرة الحرم الإبراهيمي.. ماثلة في الذاكرة الفلسطينيّة

د.معن منيف سليمان

يستذكر الفلسطينيّون والعالم المجزرة التي ارتكبها مستوطن صهيوني في الخامس والعشرين من شباط عام 1994، واستُشهد فيها عشرات المصلّين وأصيب آخرون داخل الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل، بعد عمل إجرامي مخطّط له من مستوياتٍ سياسيّة ودينيّة وإيديولوجيّة حاقدة في داخل الكيان. ومن يومها استغلّت سلطات الاحتلال الحادث لتقسيم الحرم بين المسلمين واليهود، وممارسة سياسات التهويد والاستيطان بمدينة الخليل ومحيطها.

ففي فجر الخامس عشر من شهر رمضان 1415 للهجرة، وقف المستوطن الإرهابي “باروخ غولدشتاين” خلف أحد أعمدة المسجد وانتظر حتّى سجد المصلّون وفتح نيران سلاحه الرشاش عليهم وهم سجود، وفي الوقت نفسه قام آخرون بمساعدته في تعبئة الذخيرة التي احتوت على رصاص متفجّر، واخترقت شظايا القنابل والرصاص رؤوس المصلّين ورقابهم وظهورهم.

وأغلق جنود الاحتلال الإسرائيلي الموجودون في الحرم أبواب المسجد لمنع المصلّين من الخروج، كما منعوا القادمين من خارج الحرم من الوصول إلى ساحته لإنقاذ الجرحى، وفي وقت لاحق استُشهد آخرون برصاص جنود الاحتلال خارج المسجد وفي أثناء تشييع جنازات الشهداء، ما رفع مجموعهم إلى 50 شهيداً، 29 منهم استُشهدوا داخل المسجد.

وفي اليوم نفسه، تصاعد التوتّر في مدينة الخليل وقراها وكافة المدن الفلسطينيّة، وبلغ عدد الشهداء الذين ارتقوا نتيجة المواجهات مع جنود الاحتلال إلى 60 شهيداً ومئات الجرحى.

يُذكر أن الإرهابي “باروخ غولدشتاين” الذي كان يبلغ من العمر اثنين وأربعين عاماً، عند ارتكابه المجزرة كان طبيباً ومن مؤسّسي حركة “كاخ” الدينيّة، وقد قدِم من الولايات المتحدة الأمريكيّة عام 1980، وسكن في مستوطنة “كريات أربع” المقامة على أراضي مدينة الخليل.

وقد سلف للإرهابي “غولدشتاين”، الاعتداء على الحرم الإبراهيمي، وتمّ تبليغ رئيس وزراء الاحتلال آنذاك “رابين”، بإجرامه وحقده العلني والواضح، وخطورة تصرّفاته هو ومستوطنين آخرين متطرّفين.

ولم يكن الإرهابي “غولدشتاين” وحده في الحرم عند تنفيذ المجزرة، بل كان هناك أكثر من خمسة عشر مستوطناً قدموا لحمايته، ما يثبت أن المجزرة جزء من مخطّط جماعي وليس عملاً فردياً، فالقاتل لم يوقفه الجنود على بوابات ومداخل الحرم، كما أنه استطاع الوصول بسهولة إلى مصلّى المسلمين، وإطلاق عدّة رشات من الرصاص لمدّة عشر دقائق دون تدخّل جنود الاحتلال المرابطين على الحرم.

ترك الجيش “غولدشتاين” ينفّذ مجزرته كاملة، على الرّغم من نقاط المراقبة المكثّفة في محيط مسرح الجريمة، واستعدادهم الدائم للتحرّك تجاه أيّة حركة أو نشاط مشبوه، وفوق ذلك كلّه شاركوا في إطلاق الرصاص على المصلين والمئات الذين هرعوا لنقل الإصابات وإنقاذ المتبقين، ما أدّى إلى ارتقاء شهداء آخرين وصل عددهم إلى أكثر من سبعة شهداء في باحات الحرم ومحيطه، وهم ينقلون الشهداء والجرحى.

أسفرت مجزرة الحرم الإبراهيمي عن استشهاد 29 مصليّاً داخل الحرم وإصابة 15 آخرين قبل أن ينقض مصلّون على “غولدشتاين” ويقتلوه. وفي أثناء تشييع ضحايا المجزرة، أطلق جنود الاحتلال رصاصاً على المشيعين فقتلوا عدداً منهم، ما رفع عدد الضحايا إلى 50 شهيداً و150 جريحاً كحصيلة نهائية للمجزرة.

إنّ هذه الجريمة تقع ضمن إطار الجرائم ضدّ الإنسانيّة, لأنّها انصرفت إلى قتل المدنيين الفلسطينيين على أسس عنصريّة ودينيّة ما يستوجب تفعيل قواعد القانون الدولي ذات الشأن بالجرائم ضدّ الإنسانية وتقديم مجرمي الحرب أمام المحاكم الدولية والوطنية المتخصّصة في هذا المجال.

وإثر المجزرة، أغلقت قوّات الاحتلال الحرم الإبراهيمي والبلدة القديمة لمدّة ستة أشهر كاملة، بدعوى التحقيق في الجريمة، وشكّلت ومن طرف واحد لجنة “شمغار”، للتحقيق في المجزرة وأسبابها، وخرجت في حينه بعدّة توصيات، منها: تقسيم الحرم الإبراهيمي إلى قسمين، وفرضت واقعاً احتلالياً صعباً على حياة المواطنين في البلدة القديمة، ووضعت الحراسات المشدّدة على الحرم، وأعطت للاحتلال الحق في السيادة على الجزء الأكبر منه، نحو 60 بالمئة بهدف تهويده والاستيلاء عليه، وتكرّر منع الاحتلال رفع الأذان في الحرم الإبراهيمي مرّات عديدة.

ووضعت سلطات الاحتلال بعدها كاميراتٍ وبواباتٍ إلكترونية على كل المداخل، وأغلقت معظم الطرق المؤدّية إليه في وجه المسلمين، باستثناء بوابة واحدة عليها إجراءات عسكرية مشدّدة، إضافة إلى إغلاق سوق الحسبة، وخاني الخليل وشاهين، وشارعي الشهداء والسهلة، وبهذه الإجراءات فصلت المدينة والبلدة القديمة عن محيطها.

وما زال الاحتلال الإسرائيلي يحاول، ضمن سياسة ممنهجة، السيطرة على المسجد الإبراهيمي وإلغاء السيادة الفلسطينيّة، وإلغاء كونه وقفاً إسلاميّاً خالصاً، كما شهد المسجد، اقتحام العشرات من جنود جيش الاحتلال، إضافة إلى قيام رئيس وزراء الاحتلال “بنيامين نتنياهو”، يرافقه عدد من وزرائه، باقتحامه، وهو أمر أدّى إلى زيادة الاقتحامات والانتهاكات للمسجد، وأدّى إلى تجرّؤ المستوطنين على نصب “شمعدان” كبير على سطح الحرم الإبراهيمي.

إن “إسرائيل” ما زالت ماضية في سياساتها الهادفة إلى ارتكاب المزيد من الانتهاكات الجسيمة بحق الشعب الفلسطيني وآخرها قرار حكومة “نتنياهو” ضمّ المسجد الإبراهيمي الشريف ومسجد بلال بن رباح إلى ما يسمّى “التراث القومي اليهودي”، بالإضافة إلى نيّة الاحتلال سنّ تشريع لتقسيم زمني للمسجد الأقصى المبارك وجعله مباحاً أمام اليهود لأداء شعائرهم التلمودية في مسجد يعدّ من أكثر مساجد المسلمين قداسة، وكذلك قرار الاحتلال بإغلاق الحرم الإبراهيمي الشريف بمناسبة ما يُسمّى عيد أيلول العبري، وهذا يعني أن “إسرائيل” تنشط في الاستيلاء على الأراضي والأماكن الدينيّة الفلسطينيّة وفق برنامج استراتيجي يقوم على ابتلاع الأرض وتهويدها، ناهيك عن أن المجتمع الدولي حتّى تاريخه لم يتخذ قراراتٍ ملزمة لـ”إسرائيل”, بل يكتفي بالشجب والإدانة والاستنكار ما يشجّعها على الاستمرار بانتهاكاتها الجسيمة.