وليد إخلاصي.. إرث إبداعي متميز
جمان بركات
منذ طفولته والأديب وليد إخلاصي شغوف بالفنون عموماً، مسكون بالأسئلة ومهجوس بقضايا قد تضيق عليها قصيدة، وقد لا تكفيها رواية، فالإبداع من وجهة نظره هو تخطي الواقع في حركة نحو الأمام لخلق واقع جديد، ذلك أن السؤال الأساسي من أي عمل فني، والرواية على وجه الخصوص، هو لماذا نكتب؟ وقد يكون الجواب المحتمل: نكتب لأننا نتجاوز دوماً الماضي والحاضر في طريق باتجاه واحد هو المستقبل، بمعنى أن الرواية هي عملية كيميائية، الهدف منها ليس الهرب من الماضي وإنما إخضاع الأزمان، الزمنين الماضي والحاضر إلى الهروب نحو المستقبل الذي سيصبح بعد فترة من الأزمان الغابرة أيضاً، ولهذا فقد أصبح المكان الموجود في الرواية مكاناً خاصاً بوليد إخلاصي، موشحاً بعناصر وأوضاع ومواقف نابعة من عمق الأفكار التي ينثرها في هذا الحدث أو ذاك، لذلك ووفق ما قال الأديب إخلاصي نفسه أنه لا يكتب عن “حلب” ذاتها وإنما يكتب عن “حلبه” التي تخصّه، وهو في معظم ما أنجز من قصّ، لم يكتب نصاً قصصياً صافياً بالمعنى الذي اتفقت نظريات الأدب عليه، بل غالباً ما كان يلوّن فعل القصّ بمعطيات سواه من أجناس الأدب الأخرى.
ويرتبط الأديب إخلاصي بمدينة “حلب” ارتباطاً وثيقاً على الصعيد المكاني، وقد صرح عن ذلك في حوارات عدة أجريت معه حيث يقول: “نزعة الملكية الوحيدة المتجسّدة عندي هي انتمائي للمدينة وللأماكن والناس، ففي علاقتي مع حلب نشأ عندي غرور شديد قد يكون عيباً فيّ لأنني أعتبر نفسي الشاهد الدائم على ما يجري في المدينة، وعلى ما بقي منها، وعلى الرغم من أن مثل هذا القرار لا يحقّ لي، لكنني أصرّ عليه، والموقف اللا حيادي يبعدني عن خانة المؤرّخين الذين نعرفهم بحياديتهم، فأنا لست أميناً على حلب لأني أحبها وأغفر لها كل ما يحدث وسوف يحدث في المستقبل”.
وقد خلّده حبه للكتابة وعشقه للحبر الذي يلوّن الصفحات بأفكار ورؤى أديب من الطراز الرفيع، وهو الذي جاء من عالم الهندسة الزراعية إلى عالم الأدب ليهندس بوجدانه وروحه إبداعات أدبية تنظمها مفردات الحياة بما تحمله من حقائق ومتناقضات، فكان رصيده الكثير من الأعمال الأدبية في مجالات القصة والرواية والمسرحية والدراسة والمقال والزاوية الصحفية والشعر، وكما كثير من الأدباء كان البوح الأول للأديب وليد إخلاصي عبر الشعر، وقد نشر في نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات في دوريات ثقافية عربية أكثر من نصّ شعري ينتمي إلى قصيدة النثر، وعلى الرغم من أنّه لم يعد يكتب الشعر، إلا أن عناصر كثيرة من هذا الفنّ ظلّت تمارس حضورها في إبداعه عامة، “القصصي، والروائي، والمسرحي”، وكما بدأ أديبنا شاعراً، بدأ محبّاً للمسرح، ولم يؤكد ولعه بالمسرح من خلال اختياره الكتابة المسرحية إلى جانب الكتابة القصصية التي بدأ تجربته الإبداعية بها فحسب، بل أكّده في بثّه عناصر من الأولى في الثانية، حتى عدّ أنّ كلّ كتابة قصصية لا توفّر لنفسها جزءاً أو كلاً من تلك العناصر هي كتابة ناقصة، ويذكر في سيرته الذاتية: “لم يقتصر تعلقي بالمسرح على حفلات المدرسة، بل كنا أحياناً مع رفاق وهواة نقدم مسرحية في دار عربية، فالمتفرجون يكونون عادة من أهل الحيّ وبعض المعارف، وأما الجيران فيطلون من أسطحتهم على الإيوان الذي يكون عادة خشبة المسرح، ويضيف قائلاً: “وكما هو حالي مع المسرح، فإن ميلاً خفياً لأن أكون حكواتياً يمكن الاعتراف به، ويبدو أن افتتاني بخيال الظل وأنا أتابع فصوله في دكان من حيّ قديم، وتعلقي بأبطاله (كركوز وعيواظ وبكري مصطفى) وهم يتحركون وينطقون من خلف القماش الأبيض، قد جعلني أكنّ تقديراً للرجل الذي يحرك الجلود والذي لم أره أبداً، وهو يؤدي أدوار الشخصيات فينطق الواحد منها وفقاً لطباعه، فكأن التنوع الذي يقوم به ذلك الرجل غير المرئي هو الذي وضع أساس المحبة للعبة المسرح التي أظنها أظهرت للعالم ما أصبح اسمه السينما”.
وما كان يميّز شخصيته الإنسانية والأدبية هذا الارتباط الوثيق بين ثقافته العالية وتأكيده على مضمون الأعمال الأدبية التي ينجزها، وكثيراً ما كان يؤكد على اعتزازه بتراثه العربي والسوري، لكنه كان يؤكد أيضاً أن اعتزازه الأساسي هو في قدرته على الانفتاح على العالم الثقافي وعالم الفكر الإنساني الواسع، فيقول: “كنت واحداً من الذين مُنحوا نعمة الانفتاح التي أرجو أن تظل مع تقدمي في السن بفرصة للانفتاح الأكبر على الفكر الإنساني”، وعبّر عن خشيته من تحول الإنتاج الأدبي إلى إنتاج إنشائي لغوي، لأن ذلك يعرّض المجتمع والكاتب للسقوط، وقد أشار في أكثر من حوار إلى أن الثقافة في مفهومنا تعني الإبداع، ويضيف: “لقد لخّصت موضوع رعاية ثقافة الإبداع وكتبت عنه من وجهة نظري في مشروع ثقافي وطني يجب أن يتحقق ولخصته بثلاث نقاط، وقلت بأن هذا المشروع الوطني يجب أن تتبناه الحكومات العربية وليس فقط الهيئات الشعبية، لأنه مشروع مهمّ يشبه المشروع التصنيعي وله أركان ثلاثة هي: الكشف عن أهمية ثقافة العمل بمعنى أن يصبح العمل مقدساً في حياة الأمة، ويجب على الإنسان أن يتفانى في عمله، والإتقان في العمل وهذا مذكور في الدين، حيث إنَّ الله يحب العبد إذا عمل أن يتقن عمله، وبالتالي يجب أن يكون هناك ترسيخ لمفهوم الإتقان في المجتمع، والكشف عن قمة الإبداع في الفرد السوري، مثلما يكتشفون البترول ويقومون بالتنقيب عنه، وبالتالي يجب أن ينقبوا عن المواهب والإبداع عند الفرد.
كان هاجس التجريب والبحث عن أشكال للمسرحية أو للرواية مصاحباً لوليد إخلاصي في رحلة التأليف التي بلغت 54 عملاً، فالتجريب من وجهة نظره ليس مذهباً أو مدرسة أدبية، بل هو أسلوب تفكير اهتدى إليه العقل الإنساني لمواجهة المسلمات القائمة والواقع المسيطر والثوابت التي يقف البعض منها في وجه الاجتهاد المطالب به العقل أبداً، والتجريب هو امتحان لأسلوب الكاتب في الوصول إلى صيغ تعبر بشكل أفضل عن المعنى، وهو الوليد المعرفي للأساليب العملية في النظر إلى الظواهر والأفعال والطرائق المتداولة في مسيرة الحياة.