إسكندر حبش: خطابنا الثقافي بحاجة إلى وعي ولا رغبة لديّ في كتابة الرواية
أمينة عباس
يصف الشاعر والصحفي والمترجم اللبناني إسكندر حبش دمشق في كتابه “هجرتان وأوطان” قائلاً: “هي جزء من كتاباتي، وجزء من ماضيّ وحياتي.. علاقتي بدمشق لم تتوقف أبداً على الرغم من كل المآسي التي أصابتها نتيجة الحرب، ولم أستطع التوقف عن الذهاب إلى المدينة التي فتحتْ لي قلبها أيام الهدوء والسلام، وليس من حقي أن أتخلى عنها في أيام الحرب.. عرفتُ فيها كل شيء: العائلة، الحب، المرأة، الصداقة، القراءة، الكتابة.. بعض المدن حتّى ولو لم نولد فيها، تصبح بمثابة مسقط الرأس، تصبح شخصاً، وهذا الشخص ربما كان يشكل أهلنا الحقيقيين.. من هنا بقيتْ دمشق هذا الشخص، أي بقيت الأهل الذي أذهب إليهم كلما شعرتُ بالحزن.. أن نحب حقاً معناه أن نختار شخصاً يبقى معنا الحياة بأسرها، لذا لا يمكن مغادرته بتاتاً حين تصيبه المآسي”.. لذلك لم يكن الاحتفاء بكتابيه الجديدين “نتأخر في الحياة” و”هجرتان وأوطان كثيرة” واللذين تبنتهما دار “دلمون” وتوقيعه لهما مع كتبه الأخرى، مؤخراً، في صالة ألف نون بدمشق إلا رغبة حقيقية لإسكندر حبش في أن يكون في دمشق ومع محبيه.
أجريتَ كصحفي العديد من الحوارات مع شخصيات أدبية معروفة، في حين ضم كتابك “هجرتان وأوطان كثيرة” حوارات دارين حوماني معك، ما أهمية الحوارات بالنسبة إليك؟ وبماذا تفيد القارئ؟
أميل كثيراً إلى قراءة الحوارات، لأنها تعرّفني على تفاصيل حياة الكاتب أكثر، ففيها يتحدث بكل وضوح عن نفسه بشكل مباشر، وكذلك عن تجربته، من دون أن يختفي وراء أقنعة الشعر أو الترجمة أو القصة، ومن أهم الحوارات التي أجريتها خلال عملي الصحافي كانت مع الروائي عبد الرحمن منيف، حيث بدأتْ هذه العلاقة عندما أصدر كتابه “شرق المتوسط” عام 1989 حيث نشرت هذا الحوار في صحيفة “السفير” ونتيجة تردده المستمر عليها ولقائي به حاورته أكثر من مرة، ثم أصدرتُ كتاباً عنه ينقسم إلى قسمين: علاقتي به وكيف كانت تنقلاتنا، وحواراتي معه، وكان هذا الكتاب أوّل كتاب حوارات لي، ولأن فكرة الحوارات تتملّكني كثيراً أصدرت كتاباً يضم بعض حواراتي في “السفير”، تزامناً مع إقفالها وكأنني أستعيض بها عمّا كنت أقوم به في الصحيفة.
ديوانك “نتأخر في الحياة” هو العاشر في تجربتك الشعرية، فأي جديد فيه؟ وماذ تحدّثنا عن بداياتك في الشّعر؟
يضم الديوان أكثر من عشرين قصيدة، لا أستطيع أن أحدّد ما هو الجديد فيها لأنّ الناقد والقارئ قد يشيران إلى ذلك، لكنني أستطيع القول إنني تطرّقتُ فيها إلى مناخات لم أكتب فيها من قبل، فتحدثت عن المقاومة للحالة العامة التي يحاول بعضهم وضعنا فيها، وفي الديوان قصيدة بعنوان “الصوانة” وهي قصيدة عميقة تختلف عن كل القصائد السابقة في الديوان، لكنها تتكامل معها، أمّا عن بداياتي في الشّعر فكانت في فترة المراهقة 1975 فكان لي خير وسيلة لأعبّر من خلاله عما كنت أشعر به في فترة الحرب اللبنانية، وقد حقّق لي الشعر الكثير من التوازن حينها، وعرفت شاعراً في المرحلة الثانويّة يقرأ قصائده أمام زملائه، وكان الشعر الباب الذي فتح لي أبواب جريدة “السفير” حين بدأت بنشر قصائدي فيها، لكن شيئاً فشيئاً لم أبق وفيّاً للشعر، فكتبت المقالة الصحفية والنقد والترجمة والبحث، وكلها أنواع كتابية مخالفة للشعر.
من الشعر إلى الصحافة والعمل سنوات طويلة في جريدة “السفير”.. ما أبرز ما تعلمتَه في الصحافة؟
العمل الصحفي عبارة عن تمرين يومي في الكتابة، فعندما يعمل المرء في صحيفة لا يمكنه أن يتوقف عن الكتابة، والصحفي في معركة يومية يجب أن يخوضها، وأعترف بأنه في ظل هذه المعركة وانشغالي اليومي ابتعدتُ قليلاً عن الأدب، لكنها في الوقت نفسه فتحت لي باب الترجمة من خلال ترجمة بعض المقالات الأدبية والسياسية.
ما أثر أفول عهد الصّحافة الورقيّة في نفسك؟ وما تأثير غيابها على المجتمعات؟
بدأ هذا العهد بالنسبة إليّ مع إقفال صّحيفة “السفير” التي كانت بيتي الذي احتضنني وقضيتُ فيه عقوداً عدّة، وكم كان مؤلماً أن أرى هذا البيت يتهدم ويتبعثر أفراده، وما حدث لـ”السفير” ترك غصة كبيرة في قلوب كل من عمل فيها، ولا أنكر أنني احتجت إلى وقت لأتعوّد على عدم وجودها، وقد أصبحت الصحافة الإلكترونية اليوم سيدة العصر، وهي صحافة افتراضية غير ملموسة، يستطيع فيروس واحد أن يحذف كل ما يُكتَب فيها وكأن شيئاً لم يكن، ومن اختبر الصحافة الورقية يدرك تماماً خسارته الكبيرة لعلاقة خاصة يشعر فيها القارئ بالورق ورائحته، وغيابه يعني غياب ذاكرتنا، ونحن اليوم ما نزال نعود إليها وإلى الكتب التي صدرتْ منذ 300 سنة، فالكتاب الورقي هو من يحفظ الذاكرة بعكس الكتابة الرقميّة، لذلك أصدرتُ كتاباً جمعتُ فيه كل مقالاتي الصحفية التي كتبتُها في “السفير” بالإضافة إلى كتب أخرى جمعت فيها حواراتي.
تكتب أجناساً أدبيّة مختلفة.. أيّها الأقرب إلى عقلك وقلبك؟ ولماذا ما تزال بعيداً عن كتابة الرواية؟
القراءة هي الأقرب إلى عقلي وقلبي، وقد مارستُ الكتابة لأنني قارئ جيّد، وكانت القراءة وما تزال الجانب الأساس في حياتي، ولو لم أحبّ القراءة لما كتبتُ في أيّ نوع أدبي، وأنا لم أكتب الرواية ولم أشعر بالرغبة بذلك، ولم أشعر بالحاجة إلى قول ما أريد عبر سردية الرواية، وليس لديّ رغبة في أن أقلّد شعراء كثيرين تحوّلوا إلى كتابتها لمجرد الكتابة، وقد تكون ترجمتي للروايات قد عوّضتني عن كتابتها. وباختصار أقول: أنا أكتب الشعر والأدب ولكن ليس عندي رغبة اليوم في خوض كتابة الرواية، فأنا أخلص للكتابة بحد ذاتها.
ما هو الجنس الأدبي الذي تتمنى أن تقيم فيه لو أتيح لك ذلك؟
الشعر والترجمة، مع العلم أنّ الصّحافة أكسبتني الكثير من الشّهرة والعلاقات والصّداقات، ولكن لم أكتفِ بالشعر فقط، فعملتُ في الصحافة والترجمة لأنّ كتابة الشعر لا تطعم خبزاً، لذلك كان لا بدّ أن أفتش عن أنواعٍ كتابيّةٍ أخرى، لكنني أعترف بأنني أتمنى لو كان بالإمكان أن أقضي حياتي وأنا أكتب الشعر.
ما سبب هذا التنوع في كتاباتك؟
لأقول ما أريد قوله بأساليب متعددة، فالكتابة بالنسبة إليّ وسيلة للتعبير، كما أنني لا أجد مانعاً في أن يخوض المبدع في كلّ أساليب الكتابة، وأنا ليس لديّ رغبة في أن أتوقّف عند نوع واحد منها.
ما الذي جعلك تردد أنك مترجم فاشل؟
أقول عن نفسي إنني مترجم فاشل، لأنني لا أستطيع دائماً التعامل مع دور نشر لديها كتب معينة للترجمة، فأنا لا أستطيع أن أترجم كتاباً لا أميل إليه.. لقد كانت الترجمة بديلاً عن الكتابة بالنسبة إلي، لذلك غالباً ما أنتقي الكتب التي تهمّني لترجمتها، وقد أنهي ترجمة كتاب في يومين، ولا أخفي شيئاً إن قلت إنني قرّرتُ العودة إلى غرامي الأول الفلسفة التي درستها ودرَّستُها من خلال ترجمة بعض الكتب الفلسفية.
السير الذاتية تلقى رواجاً كبيراً لدى القراء.. هل لديك رغبة في كتابة سيرتك الذاتية؟
الأمر وارد جداً، وهناك يوميات أكتبها، لكن حتى الآن ليس عندي قرار في نشرها، وأنا متردد لأنني أرى أن الوقت لم يحن بعد لكتابتها، وربما بعد فترة يبدو الأمر ممكناً، وأنا بانتظار أن تكتمل سيرتي، خاصّةً وأنني ما أزالُ أكتب حتّى اليوم.
عاصرت الحرب في لبنان وسورية.. ماذا غيّرت الحرب فيك؟ وما هو المطلوب من المثقف في هذه الفترة؟
علَّمتني الحرب البحث عن الإنسان المفقود في نفسي وفي الآخرين، ومشكلة الحرب أنها تجعلنا نتخلى عن إنسانيّتنا وعمّا نحن عليه، وهنا تكمن الصعوبة الكبرى: كيف نستطيع المحافظة على إنسانيتنا؟ هذه هي الحرب الحقيقيّة والصّعبة، فإن حافظنا على إنسانيتنا سننجو من كلّ الكوارث، ويمكن للمثقف أن يفعل ذلك عندما لا يكون شريكاً في الحرب ويقول عن الخطأ خطأ، وعندما لا يسكن في برجه العاجي ويبتعد عمّا يدور حوله، ويبقى إنساناً ينظر إلى المستقبل والعالم.. إن خطابنا الثقافي بحاجة إلى الكثير من الوعي، ففيه الكثير من الخلل، وبدا ذلك واضحاً خلال الحرب على غزة، حيث اتّجه هذا الخطاب نحو غزة وليس نحو فلسطين، في حين أن خطابنا الثقافي يجب أن يقوم على تذكير العالم باسم فلسطين.. العدو لديه مشروع “ثقافيّ” يحاول تنفيذه، لذلك يجب أن نسعى لأن يكون لدينا مشروع ثقافي حقيقي، ويجب أن نعي في لبنان وسورية أن العدو واحد وهدفه تدمير الشرق والحضارات، وأنا أنتمي إلى مدرسة فكريّة وحضاريّة من بلاد الشام، وما يجري اليوم هو محاولات لتدمير هذه الحضارات بكل ما تحمله من ذاكرة ومخزون فكري وثقافي في سبيل إعادة موضعة أشياء لا تشبهنا لا على الصعيد السياسي ولا على الصعيد الثقافي ولا على صعيد الإنسان.. لم أكتب عن حرب لبنان لإيماني أننا ما نزال نخوض حروباً متتالية، ولأن الكتابة الحقيقية تحتاج إلى وقت طويل، أمّا اليوم فهناك أحداث في سورية ولبنان، وهذا يحتاج إلى تفكير ورؤية، ومع كل ما يحدث يجب أن نتفاءل لإيماني بأن ما يحصل لا يمكن للعالم أن يستمر فيه، وعندي إحساس بعيد عن المعلومات والتحليل يؤكّد أن العالم سيتغير وسينتهي هذا الظلام عاجلاً أم آجلاً.
تلجأ إلى الرسم أحياناً.. هل هو محطة للاستراحة لديك؟
لا أدّعي أنني فنان تشكيليّ، لكنني أحبّ الرسم وأعدّه محطة استراحة بالنسبة إلي، حيث بدأت بالرسم لنفسي وعرضتُ لوحاتي مرة واحدة في أحد المعارض الجماعيّة، وما بيع من المعرض كان لوحاتي فقط، وكتاباتي عبارة عن لوحة أدبيّة، واللوحة تشبه كتاباتي وفيها شيء من الأدب، فهي تشبهني.
لماذا لم تصدر ما كتبته ضمن كتاب الأعمال الكاملة حتى الآن؟
لم أقدّم كتاباتي الشّعريّة وغير الشعريّة بما فيها المقالات والترجمات والحوارات في أعمالٍ كاملة، لأنني أرى أن الوقت مبكر لذلك، فما زال عندي أمل بالمزيد من الكتابات ما دمتُ على قيد الحياة وما دمتُ قادراً على الإبداع.