“الرعب” هو الذي يقف خلف تصريحات ماكرون
طلال ياسر الزعبي
لم يعُد الحديث في الغرب الجماعي، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، يتركّز حول كيفية تمكين النظام الأوكراني من الانتصار على روسيا في الحرب الدائرة الآن بين حلف شمال الأطلسي “ناتو” بالوكالة ضد روسيا، فهزيمة القوات الأوكرانية في الحرب باتت نتيجة حتمية أدركها الجميع، ولكن هذا الحديث وخاصة في الغرف المغلقة صار ينصبّ على قضيّة أخرى، وهي أن هذا الغرب، وخاصة الأوروبي، الذي تصدّى لاستعداء روسيا بتحريض من “حليفه الأطلسي” في واشنطن، بات يدرك جيّداً أن اللعب الذي مارسه على المكشوف مع الدب الروسي خلال السنوات الماضية لن يمرّ دون عقاب، وستكون له تبعات كارثية على الواقع في أوروبا ربّما يكون شبيهاً بالواقع الناشئ هناك في أعقاب الحرب العالمية الثانية التي انتصر فيها الجيش السوفييتي على قوات ألمانيا النازية التي وصلت إلى مشارف موسكو بتواطؤ وتحريض أوروبي على الأغلب حتى لو تمّت تغطية ذلك أحياناً بغطاء اشتراك الجميع في معاداة النازية، الذي كشفَ كذبَه الدعم الأوروبي غير المحدود للنازيين الجدد في أوكرانيا ضد روسيا.
فالمشهد الآن، ببساطة، يعبّر عن رعب أوروبي حقيقي من قيام روسيا مدفوعة بنشوة الانتصار باجتياح الغرب الأوكراني، وبالتالي الوصول إلى وسط أوروبا عملياً وتهديد العواصم الأوروبية بشكل مباشر. وهذا ما دفع أكثر القادة الأوروبيين رعباً من المشهد إلى الخروج عن المألوف بفضح ما تم تداوله صراحة بين القادة الأوروبيين، إذ ليس من المعقول أن ينبري الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الإعلان أنه “لا ينبغي استبعاد أيّ شيء” في مواجهة روسيا، ومن بين ذلك طبعاً إرسال قوات خاصة من دول غربية إلى أوكرانيا، دون أن يكون هناك تداول مباشر لهذا الأمر في الاجتماع المذكور.
وحتى لو افترضنا أن حديث ماكرون جاء تعقيباً على ما كان فعلياً من الدول الأوروبية التي تقاتل قوّاتها الخاصة في أوكرانيا تحت مسمّى “مرتزقة”، فإن ذلك لن يغيّر من الحقيقة شيئاً، حيث أعلن مسؤول كبير في مجال الدفاع الأوروبي، لصحيفة فايننشال تايمز، أن هناك قوات خاصة أوروبية تقاتل بالفعل إلى جانب الجيش الأوكراني، ولكن لم يتم رسمياً الإعلان عن وجودها، بمعنى أن ماكرون يستبق نتائج لجنة التحقيق الروسية الخاصة برئاسة ألكسندر باستريكين، الذي أعلن التحقيق في قضايا جنائية ضدّ أكثر من 590 مرتزقاً من 46 دولة تقاتل إلى جانب قوات كييف، بينهم أمريكيون ومن “إسرائيل” وجورجيا وبريطانيا، حيث يمكن أن تقود مثل هذه التحقيقات إلى تأكيد فرضية قيام حلف شمال الأطلسي بإرسال قوات خاصة للقتال إلى جانب الجيش الأوكراني ضد روسيا، الأمر الذي سيجعل الناتو بطريقة أو بأخرى منخرطاً بشكل مباشر في الحرب على روسيا، وبالتالي الدفع باتجاه حرب عالمية ثالثة في مواجهة روسيا لا يرغب الحلف ضمن واقعه الحالي في خوضها.
وعلى هذا الأساس، سارعت كل من بولندا والسويد وألمانيا وسلوفاكيا وجمهورية التشيك وهنغاريا وبريطانيا وكذلك الولايات المتحدة، إلى التشديد على أنها لا تنوي إرسال قواتها إلى أراضي أوكرانيا، وقالت رئيسة لجنة الدفاع في البوندستاغ الألماني ماري أغنيس ستراك زيمرمان: إن الخلافات في أوروبا بسبب النهج المختلف لباريس وبرلين لحل الصراع في أوكرانيا ستزداد، مشيرة إلى استفادة روسيا فعلياً من هذا الخلاف، بينما أكد المستشار الألماني أولاف شولتس أنه لن يتم إرسال أي جندي إلى أوكرانيا من الدول الأوروبية أو الدول الأعضاء في حلف الناتو.
على أن ردود الفعل الغربية الغاضبة من تصريحات ماكرون لم تتوقّف عند المستوى الرسمي، بل تجاوزته إلى وسائل الإعلام التي يبدو أنها مطلعة على جانب كبير من التورّط الغربي في إرسال قوات خاصة إلى أوكرانيا لمحاربة روسيا، حيث أبدت وسائل الإعلام الأمريكية تشاؤمها حيال ذلك، وقالت شبكة CNN: إن ذلك قد يؤدّي إلى أكبر صراع بري تشهده أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
وقالت وكالة بلومبرغ: إن مثل هذه الخطوة قد تجرّ الناتو إلى القتال المباشر ضد روسيا.
الإعلام الأوروبي كان له رأي حاد تجاه فكرة ماكرون، حيث قالت ديلي تلغراف إن “مستشاريه الدبلوماسيين اعتادوا على نتف شعر رؤوسهم عند سماع بعض مقترحاته المتهوّرة”.
وأشارت Le Figaro إلى أن فكرة ماكرون أثارت ردود فعل ساخطة جداً في أوروبا، وذكرت مجلة GEO، أن أوروبا تحاول إطفاء الفتيل الذي أشعله ماكرون.
لكن الذعر الأوروبي من إمكانية الانتقام الروسي من الدعم الأوروبي المباشر لأوكرانيا في الحرب على روسيا، من خلال إرسال قوات خاصة للقتال ضدّها، ظهر جليّاً في تصريحات رئيسة وزراء إستونيا كايا كالاس التي تمتلك بلادها حصّة لا بأس بها من المرتزقة الذين يقاتلون إلى جانب القوات الأوكرانية، حيث قالت: “علينا أن نضع كل الخيارات على الطاولة وبحث ما يمكننا أن نفعله لمساعدة أوكرانيا على الانتصار”.
فالأمر إذن يتعلّق بالدرجة الأولى بإجراءات تصعيدية قام بها حلف شمال الأطلسي بالكامل ضدّ روسيا، وليس فقط ضمن إطار هذيان الرئيس الفرنسي الذي يشعر بالعجز فعليّاً عن تغيير صورته المتآكلة في الداخل الفرنسي وعلى الصعيدين الأوروبي والعالمي، بالنظر إلى إخفاقاته في كثير من الأماكن حول العالم، وخاصة في الشرق الأوسط وإفريقيا، وهذا فضلاً عن شعوره أيضاً بالخوف من أن تقوم ألمانيا بالاستقلال بقرار الحلف على خلفية فوز المرشح الجمهوري الأمريكي الرئيس السابق دونالد ترامب برئاسة البيت الأبيض وتنفيذ تعهّداته بتدفيع جميع دول الحلف ما يترتّب عليها من أموال للحلف أو رفع الحماية الأطلسية عنها، وفرنسا طبعاً تعدّ من المتخلّفين عن سداد حصّتها من مخصّصات الحلف.
وجاء وصف موسكو فكرة ماكرون بأنها تسعى إلى إشعال فتيل صراع عالمي بين روسيا والغرب، وأنها تعني “حتمية الصدام المباشر” بين روسيا و”الناتو”، ليزيد منسوب القلق داخل الحلف الذي يدرك جيّداً أنه بات عاجزاً تماماً عن تقديم أيّ إسعاف لكييف في هذا الوقت الضائع، وبالتالي يتعيّن عليه المهادنة مع روسيا بأيّ ثمن، حتى لو كان ذلك ثمنه دفع فلاديمير زيلنسكي إلى الاستسلام والاعتراف بانتصار موسكو في الحرب، لأن التنازل عن جزء من أوكرانيا في شرق أوروبا خير من خسارة أوكرانيا بالكامل بما فيها من أقاليم تقع في وسط أوروبا، وهذا ما يعيد إلى الأذهان الرعب الأوروبي من الجيش السوفييتي بعد انتصاره على ألمانيا النازية ووصوله إلى العاصمة برلين، لتقسيم ألمانيا إلى دولتين شرقية وغربية.