مجمع اللغة يستقبل الدكتور محمد قاسم عضواً عاملاً جديداً
ملده شويكاني
النحو يصلح لسان الألكن
والمرء تكرمه إذا لم يلحن
استحضر الدكتور محمود السيد رئيس مجمع اللغة العربية هذا البيت ليشير إلى أهمية النحو في علوم اللغة، الذي عدّه ابن خلدون من أهم علوم اللسان، كما رأى “تشومسكي” أن النحو من اللغة بمنزلة القلب من جسم الإنسان، وذلك في الجلسة العلنية التي أقامها مجمع اللغة العربية في استقبال الدكتور محمد عبد الله قاسم عضواً عاملاً في مجمع اللغة العربية، خلفاً للدكتور الراحل عبد الإله أحمد نبهان بحضور أعضاء المجمع والأساتذة الجامعيين والمثقفين والمهتمين والطلاب.
وقد انتخبه مجلس المجمع في جلسته المنعقدة يوم الأربعاء في العشرين من الشهر التاسع عام 2023، وصدر بانتخابه المرسوم الجمهوري رقم 276 في الخامس من الشهر الحادي عشر عام 2023.
الماضي الحيّ
وفي كلمة الدكتور محمود السيد الترحيبية أعرب عن تهنئة الدكتور قاسم بانضمامه إلى أسرة المجمع، ليسهم في خدمة لغتنا العربية الخالدة، مبيّناً أن من معايير الأصالة هو ما نطلق عليه الماضي الحيّ من تراثنا الذي يغذي العقل والوجدان ويسهم في تقدم المجتمع، ومن هنا يكون ثمة تفاعل بين الإيجابي البناء في هذا التراث والإيجابي البناء من الثقافات الأخرى بما يتفق وذاتيتنا الثقافية.
وتابع الدكتور السيد أن اللغة الأم تعدّ الرمز المعبّر عن الشخصية ثقافة وقومية وانتماء، إذ إن ثمة أناساً من غير العرب كسيبويه والبيروني والجرجاني والرازي وغيرهم، أصبحوا من أهل هذه اللغة وأبدعوا فيها منذ ما يزيد على ألف عام، وهذا يدلّ على أن جوهر العروبة ليس مفهوماً عرقياً أو عنصرياً، بل هو هوية ثقافية حضارية موحدة، مشيراً إلى أن تراث أمتنا لا يبدأ مع الحضارة العربية الإسلامية بل تمتد أبعاده لتستوعب التراث القديم لكل أقطار وطننا العربي.
اللغة حاضنة التراث
وتوقف السيد عند دور اللغة العربية الحاضن لتراثنا والمحافظ عليه، ويعمّق جذوره التعدّد والتنوع والانفتاح على الثقافات الأخرى من دون الذوبان فيها وفقدان التميز، مبيناً أن خسارة اللغة لا تعني افتقاد التواصل فقط، بل تعني افتقاد الانتماء إلى الهوية القومية، وأن مسؤوليتنا تجاه لغتنا جسيمة لا تنتهي عندها جهود، ما يفسّر العناية التي لقيتها الدراسات اللغوية في تراثنا لارتباط اللغة بالقرآن الكريم، الذي حماها عبر المحن والنكبات والهجمات الاستعمارية التي مرت بها أمتنا العربية.
كما أوضح السيد أن الجانب المظلم من العولمة يروم دعاته وأد كلّ القيم الإيجابية التي تعمل على تقدم مجتمعنا وإيقاظ السلبية بالدعوة إلى إحياء العاميات، لأن اللهجات العامية عامل تفريق حتى في القطر الواحد، في حين أن العربية عامل توحيد بين أصقاع العروبة كلها، كما عمدوا إلى وصم لغتنا الفصيحة بالتخلف وعدم مواكبة روح العصر، فاستبدلوها باللغة الأجنبية في أغلب جامعات وطننا العربي، وأنّ سورية تبقى متمسكة بعروبتها ولغتها الفصيحة التي تملك القدرة على تمثل أدق المصطلحات الأجنبية في عصر التدفق المعرفي، ليخلص إلى أن الدكتور محمد قاسم سيسهم في عملية تحقيق بعض المخطوطات القيمة.
جائزة الباسل للتفوق
وألقى الدكتور عبد الناصر عسّاف كلمة اتخذت طابع السيرة الذاتية بالترتيب للعضو الجديد، متوقفاً عند تفاصيل الدراسة والعمل، إذ ولد الدكتور محمد قاسم في بصرى الشام بمحافظة درعا عام 1975، وانضم إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة دمشق عام 1994، ولتفوقه نال جائزة الباسل للتفوق لثلاثة أعوام متتالية، وتخرج في عام 1997 بتقدير امتياز ونال جائزة الباسل للخريج الأول على الدفعة، ثم حصل على دبلوم الدراسات العليا- الشعبة اللغوية عام 1998، إلى أن حصل على الدكتوراه في النحو والصرف عام 2005 بمرتبة الشرف من جامعة دمشق، وكان موضوع رسالته “الأصول النحوية والصرفية في كتاب الحجّة لأبي علي الفارسي” طُبعت في مجلدين عام 2008، فكانت مثالاً متميزاً بالاستقراء والجمع والتصنيف والاستدلال والمحاكمة والتحليل والتوثيق واللغة والأسلوب.
التدريس الجامعي والتحقيق
ثم انتقل إلى أعماله ابتداء من مرحلة التدريس الجامعي والتحقيق، مثل تحقيق “يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر للثعالبي”، والمراجعة والتدقيق، وإدارة مديرية إحياء التراث في وزارة الثقافة، والكتابة والتأليف، فكتب الكثير من الأبحاث والدراسات والمقالات التي جمع بعضها في كتاب “بحوث في اللغة والأدب والرّجال” صدر عن الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2019. كما شارك بالتأليف لليافعين في منشورات الهيئة أيضاً، أحدهما “سعيد الأفغاني.. عالم العربية وحارسها النابه” 2020.
وأشاد عساف بلغة قاسم المتسمة بالفخامة والجزالة والإحكام، ليخلص إلى أنه من أهل الأدب والتراث واللغة.
جزالة الألفاظ والصياغة
أما الدكتور محمد قاسم فشكر الأعضاء كلهم على ترشيحه ومن ثم انتخابه، وأهدى هذا الشرف الكبير إلى روح والديه وأساتذته وعائلته، وألقى كلمة خطّ فيها سمات العضو الراحل الدكتور عبد الإله أحمد نبهان وخصاله الحميدة ( 1945-2020)، وقد اتسمت بمتانة تراكيبه وقوة صياغته اللغوية وألفاظه الجزلة المتتالية بجرس موسيقي رائع شدّ الحاضرين، مبتدئاً بأبيات شعر قالها مظهر الحجّي في رثاء عبد الإله نبهان:
شيخ النحاة وهل في النحو غامضة
إلا جلوت؟ وضاء العاتم العكر
وكان علمك مبذولاً لطالبه
فيض غزير وحلم باسم عطر
ثم بدأ بالسيرة الذاتية للراحل الذي ولد في أم الحجارة السود في حمص المكلوءة بماء العاصي في الثالث من آب عام 1945، وما إن أتقن القراءة حتى كلّفه والده مهمة القراءة لجده الكفيف الشيخ طاهر نبهان، فحضر مجالس جده التي يجتمع فيها مريدوه من طلبة العلمين الشرعي والكوني، فتوجه هذا الفتى إلى محاريب اللغة، وانفتحت أمامه أبواب واسعة بالتبحر بعلوم القرآن الكريم والعربية، وآلت إليه أمهات الكتب التي كان يقتنيها جده، فقال في إهداء كتابه “ابن يعيش النحوي” إلى روح جده:
عاش حياته كلها
يدرك الدنيا ولا يراها
نافذ البصيرة حديد الفهم
قارئاً حافظاً مقرئاً
ومن ثم رفد مكتبة جده، وبعدما أعير إلى جامعة الإمارات اشترى منزلاً كاملاً لمكتبته.
وعاد الدكتور قاسم إلى سيرة نبهان، إذ انتسب إلى قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة دمشق وبعد التخرج بتقدير جيد، حاز على دبلوم التربية فدبلوم الدراسات اللغوية العليا، إلى أن حصل على الدكتوراه بتقدير امتياز عام 1980، وساهم في تأسيس كلية الآداب في جامعة البعث، كما ساهم بتأسيس مكتبتها، وتولى مناصب إدارية عدة، وأعير إلى الإمارات، ومن ثم انتخب عضواً عاملاً في مجمع اللغة العربية في دمشق في 17 أيلول 2008 خلفاً للشيخ طاهر الجزائري، وأقيم حفل استقباله في 13 أيار عام 2009، إلى أن وافاه الأجل عام 2020.
خصاله الحميدة
وتحدث الدكتور قاسم بإسهاب عن خصاله واصفاً إياه بـ”الدكتور عبد الإله الموطأ الأكناف” فقال: “ترى فيه سيماء النباهة وسماحة الظرف وحضور البديهة ويقظة الوجدان، يأنس به جليسه ولا يخيب راجيه، يتهلل والفرح يفيض من أساريره، يتأنى لمحنة اللفظ، ويمسك بأهداب الروح”.
وانتقل إلى بعض المواقف التي تشهد على فضله المتناهي، فكان يعرف أقدار الرجال وينزلهم منازلهم. ثم توقف عند آثاره العلمية، ومنها:
– الكتب المؤلفة: ابن يعيش النحوي– اتحاد الكتّاب العرب– دمشق- 1997.
– الفهارس المفصلة للأشباه والنظائر في النحو للسيوطي، كشافات تراثية، معهد المخطوطات العربية، القاهرة، 1998.
ومن الكتب المحققة:
-المقصود والممدود للفراء (بالاشتراك) دار قتيبة، دمشق، 1983.
ـ تحفة الأنفس وشعار سكان الأندلس لابن هذيل (بالاشتراك)، مركز زايد للتراث، العين، 2003.
كما نشر الرسائل التي حققها في مجلة مجمع اللغة العربية وغيرها، وشارك في سلسلة المختار من التراث ـ وزارة الثقافة ـ دمشق، منها معجم البلدان لياقوت الحموي (ثلاثة أسفار) 1983.