الأدب والفن عصيّان.. ولو قاربهما الذكاء الاصطناعي
أمينة عباس
تعمل ماكينة التطور التكنولوجي بشكل مجنون وتقفز قفزات لا قدرة للبشر على التحكم بها في ظل بحث الإنسان عن كل ما يريحه، وقد شهد العام 2023 ثورة غير مسبوقة في الذكاء الاصطناعي الذي يغزو، اليوم، كل مكان من دون خطوط حمراء، إلى أن تصاعدت أصوات تقول إنه لا يجوز للذكاء الاصطناعي أن يفعل كل شيء في الوقت الذي طالت تطبيقاته المبهرة الفن والأدب، حيث تمكنت قبل فترة من إكمال السيمفونية العاشرة للموسيقار الراحل “لودفيغ فان بيتهوفن” وتقديم نسخ عن أهم اللوحات العالمية وكتابة نصوص أدبية، الأمر الذي أثار كثيراً من الجدل والانقسام في أوساط الفنانين والأدباء، فهناك من يعدّه معززاً للإبداع والإمكانيات الفنية، وهناك من يراه مهدداً للتجربة الإنسانية التي لا تخل من مشاعر وعواطف وأحاسيس يقوم عليها الأدب والفن.
الروبوت الشاعر
يبيّن الشاعر قحطان بيرقدار، مدير منشورات الطفل في الهيئة العامّة السورية للكِتاب، ورئيس تحرير مجلة “أسامة”، أننا دخلنا مرحلة جديدة من مراحل تكنولوجيا المعلومات وثورة الرقميات والاتصالات، ألا وهي ما يُسمّى الذكاء الاصطناعي الذي وصل إليه الغرب وروسيا والصين منذ زمن ليس بقصير، لكن كعادتنا نحن العرب نأتي متخلفين في ركب التقدم والتطور عن بقية الأمم..
ويلاحظ بيرقدار انتشار مواقع إلكترونية كثيرة تحت عناوين برّاقة وصادمة، منها ما هو مجاني ومنها ما هو مأجور تُعنَى بالتدقيق اللغويّ للنصوص وضبطها بالشكل وبالترجمة الآلية الفورية الناطقة والمكتوبة ووزن الكلام العربي على أوزان الشعر العربي العروضية، ومواقع تُتيح كميات هائلة من القوافي وحروف الروي، وصولاً إلى مواقع يستطيع الشخص من خلالها أن يكتب الشعر كما تزعم، مؤكداً أنها مواقع مملوءة بالأخطاء الفاحشة وغير موثوق بها علمياً أو معرفياً، ومن ثم فالذكاء الاصطناعي برأيه في المجالات الأدبية واللغوية لم يُثبِتْ نفسَه بعد، ولن يُثبِتَها، خصوصاً في قضيّة أن يحلّ محلّ الشاعر الحقيقي في كتابة القصيدة، فهذا أمرٌ لا يمكن أن يتأتّى أو ينجح برأيه، فلا يمكن أبداً أن يحل الشاعر الآليّ أو الروبوت الشاعر محلّ القدرة البشرية الإبداعية الحقيقية لأن كتابة الشِّعر برأي بيرقدار مسألة روحية خالصة منفتحة على المشاعر والعواطف والخيال المُبتكَر، ولا يمكن للذكاء الاصطناعي اختراق ذلك ومواكبة قضية الشّعر الأولى والأخيرة ألا وهي اللغة بمعناها الفنيّ الخالص، موضحاً أنه إن لم يُستخدَم الذكاء الاصطناعي في هذه المجالات بشكل واعٍ وحَذِر فإنه سيفتح الباب أمام مزيد من الفوضى والتّشيُّؤ والاستهلاكية الأدبية والضحالة الإبداعية والفكرية في ظل وجود أعداد هائلة ممن يدّعون أنهم شعراء بسبب ازدياد عدد المنابر المتاحة، الواقعية منها والافتراضية، ومع هذا لا يجد بيرقدار ضيراً في الاطلاع الواعي والمسؤول على التطورات والمنجزات التي يأتي بها الذكاء الاصطناعي ومواكبتها فيما يُسمى الأدب الرقمي من خلال العمل على أرشفة الإنتاج الأدبي والشعري من العصور كلها، وإتاحة مكتبات أدبية رقمية أكثر تطوراً مما هو متاح حالياً لمساعدة الباحثين وطلاب الماجستير والدكتوراه في دراساتهم.
سيفرز أشخاصاً لا يتمتعون بموهبة حقيقيّة
يوضح المؤلف الموسيقي إيهاب المرداني أن الذكاء الاصطناعي تطور طبيعي للثورة التكنولوجيّة التي نعيشها في السنوات الأخيرة والتي وفّرت على الإنسان جهداً كبيراً ووقتاً، وأضحت لا تنفذ ما يطلبه البشر، لكنها تحاول محاكاة السلوك البشري من خلال القواعد الناظمة وتحليل اللون البشري كيف يتصرّف، وهي تكنولوجيا قادرة على أن تفكّر بما يفكّر به البشر، وهي حالة مذهلة جعلتنا نشعر بالخوف والعجز من سحب البساط من تحت الإنسان، في حين أنه مساعد قوي للإنسان برأيه، مبيناً أنه في الجانب الموسيقي هناك اليوم برامج في الذكاء الاصطناعي تصوغ لحناً بمجرّد تقديم معلومات عن طبيعة اللحن، كما تقوم بالتوزيع الموسيقي، لذلك يظنّ البعض أن الوقت حان للاستغناء عن المؤلف أو التوزيع الموسيقي، لكن مع الوقت سنكتشف أن الأمر ليس كذلك لأن الذكاء الاصطناعي على أهميته يفتقد إلى المشاعر والأحاسيس الداخليّة، لذلك سيبقى الشعور البشري عصياً عنهاً، ولو قاربها الذكاء الاصطناعي لكنه لن يصل إليها، موضحاً أن الانسان بإمكانه السيطرة على الذكاء الاصطناعي وترويضه لخدمته الشخصيّة، لذلك فهو كموسيقي لا يخيفه الأمر، مع اعترافه بأن هذا الذكاء سيفرز أشخاصاً لا يتمتعون بموهبة حقيقيّة ويظنّون أنفسهم مؤلفين موسيقيّين ومبدعين بمجرد اعتمادهم على برامجه، وانطلاقاً من ذلك يؤكد أن المشكلة الحقيقية ليست في التقنية بحد ذاتها بل في من سيستخدمها، مع إشارته إلى أن الذكاء الاصطناعي تقنية تسهّل الكثير من الأمور للموسيقي اليوم وبأسرع وقت، حيث وفّرت برمجياتها مثلاً تنقية الصوت ومعالجة مشكلاته، وأتاحت المجال في الوقت ذاته لدخول أصوات عادية إلى الساحة الغنائية، حيث تتحول هذه الأصوات بفضل هذه التقنية إلى أصوات خالية من العيوب، مع تأكيده أن من يعمل على برامج الذكاء الاصطناعي في أي مجال يجب أن يكون خبيراً لأن الذكاء الاصطناعي لديه عدد هائل من المصفوفات والمقارنات، وقد يصل إلى نتيجة مغايرة لما نريده، منوهاً بأن الموسيقا الشرقية لغناها واعتمادها على المقامات المتعددة ما تزال بمأمن نوعاً ما من الذكاء الاصطناعي الذي يركّز على الموسيقا الغربيّة.
ولا يخف المرادني أن موضوع الذكاء الاصطناعي يشكّل رعباً للبعض، لكنه يراه كأي ثورة في التكنولوجيا تحتاج إلى بعض الوقت لاستيعابه ومن ثم فهمه بشكل صحيح ومحاولة تطويعه، مع إيمانه بأنّ الذكاء الاصطناعي سيفتح آفاقاً جديدة وطرق تفكير جديدة في مجال الفن وكل المجالات، وسيساهم في صنع أشياء مبتكرة بعيدة عمّا هو تقليدي.
الخطر الأكبر
ويرى رامز حاج حسين كفنان تشكيلي أنه لا ضير من تعامل الفنان مع تقنية الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة لتسهيل وتبسيط عملية استجلاب المعلومة الفنية واللوحة والخطوط بشكل أسهل وأسرع لبناء العمل الفني لاحقاً وفقاً لتلك الخطوط والألوان والأفكار التي يولدها البرنامج، لكن من دون النسخ واللصق أو الاعتماد الكامل عليه في تنفيذ العمل الفني لأن اعتماد الفنان على اللوحة المولدة من برامج الذكاء الاصطناعي بشكل كامل سينتج لوحة بلا هوية بصرية خاصة وبلا لمسات نابعة من تجربة الفنان وتراكم العملية التشكيلية في روحه، منوهاً بأنه في سنوات سابقة دخلت بعض البرامج الحاسوبية لتسهيل العملية الفنية ونقل الفن من المراحل اليدوية إلى مرحلة الرسم الديجيتال، وكانت برأيه خطوات مدروسة وجيدة وخادمة في بعض المناحي كرسوم الأطفال والمجلات والرسوم المتحركة، وكان الفاعل والمؤثر والمبدع فيها هو الفنان نفسه، أما اعتماد الفنان على ما يتم تشكيله عبر الذكاء الصناعي فهو برأيه عملية غير فنية وغير مجدية لتجربة الفنان وتراكم خبراته، ولا يخف حاج حسين أن النتائج المستقبلية قد توحي بالخطر إن تم استبدال الفكر والجهد والعمل اليدوي البشري بنتائج وأعمال مستخرجات الذكاء الصناعي في الفن والركون للنتائج على أنها أعمال إبداعية، والخطر الأكبر الذي يتعرض له القنان الحقيقي برأيه هو تقبّل هذه الأعمال من قبل الشركات والدور الخاصة بالإنتاج واستبدال الأعمال الفنية بالذكاء الاصطناعي بأعمال الفنانين الخاصة المنجزة بلمساتهم الإبداعية البشرية.
خطر على الشعر
لا يتردد الكاتب سامر منصور وهو من كتّاب الأدب العلمي بالقول إن هناك مِهناً كثيرة سيحتلها الذكاء الاصطناعي بكفاءة أعلى من البشر، لكن جُلّها ليست إبداعية، ولعلّ الجنس الأدبي الذي يشكل الذكاء الاصطناعي خطراً عليه هو النظم الشعري بالمعنى السلبي، وفي الوقت ذاته يشير إلى إمكانية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في دحض الاستسهال في ظل وجود عدد كبير من الكتّاب غير المثقفين الذين يكتبون بسذاجة عن موضوعات كُتب فيها ما هو أعمق وأثرى وأبدع، وهنا تبرز أهمية الذكاء الاصطناعي بالنسبة للمشهد الثقافي، حيث يُسهّل على الكاتب البحث عن الثيمات المشابهة لما يكتب فيه الكتّاب، أي أنه سيُبوّب الآداب ويُصنفها بشتى الطرائق التي تتيحها نقاط التشابه والاختلاف فيما بينها، مبيناً أن الذكاء الاصطناعي يكون خادم لنا، فهو مُرتهن لدوافعنا ورغباتنا بهامشٍ عريض، ولعل التوصيف الأنسب له أنه تضخيم الذكاء ذو الدوافع البشرية عبر التكنولوجيا، أي أنه ذكاء عقلي بشري مُضخّم، لكنه من جهة أخرى ليس مُرتهناً لمزاجيات أو معتقدات أفراد، لذلك هو أكثر تقدماً وموضوعية كونه مُقيد بهامشٍ ما ولا يعرف مسائل كثيرة قد تشوش المخرجات المعرفية التي يتوصل إليها كالخوف مثلاً.