الذكاء الاصطناعي وتحالف المثقفين لحماية التراث
السويداء- رفعت الديك
في حين يقدم الذكاء الاصطناعي حلولاً واعدة، للكثير من المشكلات والقضايا الاجتماعية، ولاسيما تلك المرتبطة بالعولمة ومفرزاتها، لكنه في الوقت ذاته يطرح تحديات واعتبارات ومخاوف متعددة وتشمل هذه المخاوف تلك المتعلقة بخصوصية البيانات، والتحيز في الخوارزميات، وخطر تقليل المشاركة البشرية في جهود الحفاظ على ثقافة وتراث المجتمعات.
ويظل تحقيق التوازن بين الأتمتة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي والخبرة البشرية أمراً مهماً جداً، ولاسيما في المجالات المتعلقة بإرث المجتمع وما يحمله من بنى فوقية، إنها قضية مهمة ومعقدة في الوقت نفسه، نظراً لخطورة نتائجها على الثقافات.
قوة تقنية
يبدو أن “الذكاء الاصطناعي” سيظل مدةً -قد تطول أو تقصرـ مثار جدل بين طرفين؛ أحدهما يرى فيه خلاصاً لكثير من المشكلات البشرية، والآخر يرى فيه هدماً لكثير من قيم الثقافات والحضارات الإنسانية، لكن المسار الأكثر هيمنة وغلبة ينطلق من مفهوم القوة التقنية بوصفها الأداة الفاعلة، خاصة وأن نفوذ الذكاء الاصطناعي يسير بخطى متسارعة لتعزيز مفهوم العولمة بالمعنى الذي يسعى إلى تذويب الثقافات والحضارات، وقَوْلَبَتها في نسق التبعية الاستهلاكية لثقافة المصدر المهيمن، بما يمتلك من أدوات تقنية يُعَدُّ الذكاء الاصطناعي أحد أكبر تجلياتها المعرفية المعقدة، حيث بدأ الآن يفرض نفسه على مختلف الاتجاهات والمستويات، بعد أن تكللت محاولات العلماء منذ منتصف القرن العشرين بالنجاح في “تطوير نظام قادر على تنفيذ المهام التي يُنظر إليها على أنها تتطلب ذكاءً بشريّاً، ومن بينها الألعاب الإلكترونية، وفهم اللغة الطبيعية؛ حتى أصبح الذكاء الاصطناعي هاجساً للمنظومات المؤسسية، ومنها المؤسسات الثقافية بطبيعة الحال، ومن ثم أفرزت الأنظمة الحالية للذكاء الاصطناعي عدداً من البرامج المساعدة في عملية الكتابة، وعلى الرغم من أنها لم تحظَ حتى الآن بالمصداقية المطلوبة كمصدر موثوق للمعلومات، فإنها قد تصبح كذلك في السنوات القادمة في ظل التطور السريع الذي يشهده هذا المجال.
يقول الباحث هيثم جودية: “على الرغم من أن وصول الإنسان إلى تصميم تطبيقات تتعلق بالذكاء الاصطناعي، وما يشكله هذا من ثورة في عالم الاتصالات والمعلومات، لكنني أعتقد بأن الشكل الحالي من الذكاء الاصطناعي المعروف باسم الذكاء الاصطناعي الضيق أو الذكاء الاصطناعي التقليدي قادر أن يؤثر سلباً على دور المثقف في حماية التراث الإنساني برمته، فالذكاء الاصطناعي الحالي الذي برز مع ظهور تطبيق CHAT GPT في أيلول عام 2022 وما تلاه من عشرات التطبيقات في هذا المجال يشكل العنصر البشري الأساس في هذا الذكاء، على خلاف ما يتم الحديث عنه حالياً عن أشكال أخرى للذكاء الاصطناعي مثل الذكاء العام الذي يحل محل البشر، وتالياً فإن هذا الذكاء الضيق أو التوليدي لن يشكل خطراً على التراث، بل إنه يمكن أن يساهم في حفظ التراث، وخاصة مع ما نعانيه من حرب ضروس في المنطقة تستهدف الإنسان وحضارته وتراثه الممتد على آلاف السنين وفق سياسة تدميرية ممنهجة من قبل أطراف معروفة في العالم ولاسيما كيان العدو الصهيوني، وتالياً أعتقد بأنّه من الممكن أن يعمل الذكاء الإنساني الحالي على الحفاظ على تراثنا المادي واللامادي، بدءاً من توثيق هذا التراث بهدف الحفاظ عليها من جهة وتصنيفها لسهولة وصول الباحثين والمهتمين إلى المعلومات في هذا المجال، كما أنه يمكن أن يعمل على المساعدة في اكتشاف المعالم الأثرية من خلال معالجة كميات كبيرة من صور الأقمار الصناعية أو عمليات المسح التي تشكل الأساس في عمليات الاستشعار عن بعد، بالإضافة إلى إحياء اللغات القديمة التي شارفت على الاندثار، حيث قد يسهم الذكاء الاصطناعي في الحفاظ على تلك اللغات وتعليمها والحفاظ على الهويات الثقافية، بالإضافة إلى المساهمة في ترميم الوثائق وإقامة معارض تفاعلية وغيرها.
ويكتسب هذا الأمر أهمية بالغة لتوظيفها في الحالة السورية، حيث ما شهدته البلاد من تدمير ممنهج للتراث الإنساني فيها يحتّم علينا استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في الحفاظ على تراثنا المادي واللامادي، بدءاً من الاقتصاد الإبداعي السوري الذي يدل على عظمة السوريين منذ آلاف السنين مثل صناعة البروكار والصدف والموزاييك والعجمي وصناعة النحاس والزجاج اليدوي والإبداع الزراعي المتمثل في الوردة الشامية، وصولاً إلى التعديات الكبيرة التي شهدتها مواقعنا الأثرية مثل تدمر ومتحف الرقة وآلاف المواقع الأثرية الأخرى.
انتهاك الخصوصية
مع توقع مؤسسة البيانات الدولية أن ينمو مجال البيانات العالمي من 33 تريليون غيغابايت في عام 2018 إلى 175 غيغابايت بحلول عام 2025، حيث تتوافر كميات هائلة من البيانات المنظمة وغير المهيكلة للشركات لتعدينها ومعالجتها، ستصبح الخصوصية الشخصية والوطنية أكثر صعوبة في الحماية في ظل انتشار الذكاء الاصطناعي، عند حدوث تسرب للبيانات أو حدوث انتهاكات، يمكن أن تلحق التداعيات الناتجة ضرراً كبيراً بسمعة الشركة وتمثل انتهاكات قانونية محتملة مع قيام العديد من الهيئات التشريعية الآن بتمرير لوائح تقيد كيفية معالجة البيانات الشخصية.
يقول هنا الصحفي سمير فليحان: الذكاء الصنعي أو الاصطناعي مجموعة من التطبيقات التي تعتمد على تراكم المعلومات، ما يسهم في الإجابة على مجموعة هائلة من الأسئلة وتقديم نتيجة سواء مكتوبة أم مصورة أم تقانة الفيديو، من هنا يمكن الاستفادة منها في الكثير من الأعمال وبالوقت ذاته تحمل مخاطر تزوير الواقع وتشويه الحقائق وصولاً إلى اختراع الواقع بمجرد تغيير الصورة أو الصوت أو المعلومة، ومن المفترض رفض أي وثيقة مشغولة بهذه التقانة لكونها لا موثوقية لها. ويبرز هنا دور المثقف في الحفاظ على القيم المجتمعية من التراث إلى التاريخ إلى الموروث المجتمعي والوطني، ونؤكد أنه مهما عظمت التقنيات وتطورت لا يمكن أن تغني عن الوثيقة الورقية والمحمية مجتمعياً وقانونياً.
توثيق التراث
وفي وقت يرى فيه أدباء ومفكرون أنهم بمنأى عن قدرات الذكاء الاصطناعي، حيث لا يزال هذا المحتوى يفتقد صفات القدرة الإبداعية، ويفتقد أيضاً القدرة على تكوين شخصية أدبية للكاتب، ومع ذلك يرى بعض المشتغلين في المجال أن هذه البرامج تنتج عدداً من العوامل الداعمة للكتّاب من حيث سرعة الحصول على المعلومة، أو سرعة إنتاج المحتوى، لكن ذلك كلّه لا يبعدنا عن دور الذكاء الاصطناعي في توثيق التراث الثقافي، حيث يعمل على تبسيط عملية فهرسة القطع الأثرية الثقافية وتنظيمها، فيمكن لخوارزميات التعلم الآلي أن تقوم تلقائياً بوضع علامات على العناصر وتصنيفها في مجموعات واسعة، ما يسهل على القيمين إدارتها ويسهل على الباحثين الوصول إلى المعلومات، وهنا يقول الكاتب فرحان الخطيب: “لعلنا نقع في مطبّ لسنا بحاجة إليه عندما نقول المثقف في مواجهة الذكاء الاصطناعي، ومما هو معروف أن الذكاء الاصطناعي هو ثمرة ونتاج العقل البشري، وقد أوجده البشر لحل الكثير من المشكلات التقنية المعقدة، ما يسرّع الاستجابة للمواقف الطارئة، وأظن هناك فرق ما بين المثقف وما بين المختصين في علم الحاسوب والتقنيات العلمية المعقدة”.
ويضيف الخطيب: “ليس هناك شك في أن العقل السوري قادر على هضم العلوم بكل أصنافها، بما في ذلك قدرته على إنشاء علاقة عالية المستوى بين العقلين، ولا بد لنا من التنويه بأن أي تقدم علمي من ذكاء اصطناعي وغيره يجب أن يبقى تحت سيطرة موجده، والعقل السوري عقل واع ومتطور ونابغ أيضاً إذا وضع في البيئة المناسبة للخلق والإبداع، وفي هذه الحالة وكما تمت السيطرة على الإنترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي، واستثماره لخدمة الثقافة بشكل عام من خلال المطبوعات الإلكترونية وسهولة التراسل، والاستنجاد بأي معلومة وبسرعة لدعم البحوث الأدبية والعلمية، أيضاً يستطيع المثقف السوري وضع الذكاء الاصطناعي في خدمة الثقافة والارتكاز عليه في تطويرها ونمائها.
حماية ثقافتنا
وإذا كان الذكاء الاصطناعي هو حصيلة العولمة وثورة معلوماتية، وهنا يمكن الحديث عن الجمع بين الذكاء الاصطناعي والحفاظ على الثقافة، لكن في هذه الحالة ستذوب ثقافة الشعوب بالتراث الإنساني الجمعي، فهذه التقنيات المتطورة قادرة على استعادة وتوثيق وحماية القطع الأثرية الثقافية، ومستعدة لضمان قدرة الأجيال القادمة على الاستمرار في الإعجاب بعجائب ماضينا، لكن أين هم مثقفونا في حماية خصوصية ثقافتنا من الذوبان في عولمة الذكاء الاصطناعي للثقافة الإنسانية ودمجها؟ تقول الأديبة وجدان أبو محمود رئيسة فرع اتحاد الكتاب العرب في السويداء: “في الحقيقة لا أجد في الذكاء الصناعي تهديداً على الإطلاق، بل على العكس تماماً هو آلية عصرية وثمرة من ثمار التقدم الإنساني تتيح استثمار العلم في مختلف المجالات ومنها حفظ التراث على سبيل المثال، عن طريق إصلاح ومعالجة الصور والوثائق القديمة وتحسين جودة البيانات وتحليلها، فضلاً عن إمكانية التحقق من الفرضيات المختلفة، أما فيما يتعلق بتأثير الذكاء الصناعي في الثقافة فهذا آخر ما يواجهه المثقف السوري من تحديات، أمام سيل الانحدار والتسطيح وطوفان الرداءة الذي يكاد يغرق كل شيء، المثقف الحقيقي والأديب الحقيقي على وجه الخصوص قادر على تطويع الذكاء الصناعي بما يخدم مشروعه ورؤاه، ولا خشية إلا من كل ما من شأنه هدم القيم والوعي والذائقة.
حليف قوي
على مرّ التاريخ، أورثت المجتمعات البشرية كنزاً من الثقافة والفن والتراث للأجيال القادمة، وتقدم لنا هذه التحف الثقافية، سواء أكانت مخطوطات قديمة أم لوحات أم مواقع أثرية، لمحات عن الماضي، ما يعكس نسيج الحضارة الإنسانية المتنوع والغني، ومع ذلك، فإنّ الحفاظ على هذه الكنوز التي لا تقدّر بثمن يشكل تحدياً كبيراً في مواجهة الزمن والكوارث الطبيعية والصراعات البشرية، ولحسن الحظ، نجد أنفسنا في القرن الحادي والعشرين عند تقاطع التكنولوجيا والثقافة، حيث يبرز الذكاء الاصطناعي كحليف قوي في مهمة حماية تراثنا الثقافي في حال تم استثماره بالشكل الأمثل.