قمّة باريس محاولة فاشلة لاستعادة سيادة أوروبا
ريا خوري
بعد حرب طاحنة في أوكرانيا دخلت عامها الثالث، أدركت أوروبا أنها بحاجة إلى إعادة إرساء أسس سيادتها من جديد بعد الصدمة الكبيرة التي تلقتها بسبب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا التي كشفت حجم ضعفها ووهنها، وأبرزها ضعف القدرات العسكرية للدول الأوروبية والاعتماد الكبير على الغاز الروسي، وترافق ذلك مع عجز القوات الأوكرانية عن تحقيق أي اختراق عسكري للأراضي التي استعادتها القوات الروسية، كما استعادت زمام المبادرة في الأشهر الأخيرة بعد تحقيق المزيد من الانتصارات. ومع تصدّع الموقف الأمريكي ـ الأوروبي (ناتو) إزاء هذه الحرب، وعدم الوفاء بوعود الدعم الجاد الذي تحتاج إليه أوكرانيا للصمود، وتجميد الدعم الأمريكي عند أبواب الكونغرس بمجلسيه الشيوخ والنواب، استضاف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه قمّة أوروبية للبحث فيما يمكن أن تتخذه أوروبا من خطوات عملية جادة لحشد الدعم المطلوب عسكرياً وسياسياً ومالياً لأوكرانيا وعدم السماح لجمهورية روسيا الاتحادية بقيادة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالانتصار.
وكان ماكرون قد اعترف بأنَّ القارة الأوروبية العجوز تمرّ فعلاً بـ(لحظةٍ حرجة)، واعتبر أن أوكرانيا تقاتل على جميع الصعد من أجل نفسها ومُثلها العليا، ومن أجل القارة الأوروبية. هنا تنشأ العديد من التساؤلات حول مدى تمتّع الدول الأوروبية بالقدرة الكافية والقوة الحقيقية على الصمود، وهي تعاني أزماتٍ اقتصادية واجتماعية وسياسية حادّة، كشفت ضعفها وفشلها في تلبية الاحتياجات العسكرية واللوجستية والاقتصادية والاستخباراتية والمالية الأوكرانية؟.
ولعلّ ما أراد الرئيس الفرنسي قوله لدى استقباله عدداً كبيراً من قادة الدول الأوروبية في قصر الملك لويس الرابع عشر في الإليزيه، أنّ أوروبا تغيّرت كثيراً مع جائحة كوفيد 19 (كورونا)، وستتغيّر بشكل أسرع وأقوى مع الحرب الطاحنة الدائرة في أوكرانيا. وخلال اليوم الأول من الاجتماع العاجل، في قصر فرساي، بالضواحي الجنوبية الغربية للعاصمة الفرنسية باريس بدّد الزعماء آمال أوكرانيا في انضمام سريع لعضوية الاتحاد الأوروبي، حيث يبدو أنّ هدف القمة السعي إلى رأب الصدع الأوروبي الكبير المنقسم حول استمرار الحرب في أوكرانيا، والمضي قُدًماً في تقديم كل أنواع الدعم العسكري واللوجستي، والهدف الثاني من القمة هو تقديم ماكرون نفسه على أنه الزعيم الذي سيقود أوروبا ويعزّز سيادتها بمعزل عن الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى دائماً إلى الهيمنة على أوروبا وقراراتها في شتى المجالات، وخاصة فيما يتعلّق بالسياسات الأمنية والعسكرية الأوروبية باعتبار أن الحرب الساخنة الدائرة في أوكرانيا تعني دول القارة الأوروبية على وجه الدقة والتحديد أكثر من غيرها.
النكسة الحقيقية التي يدركها الرئيس الفرنسي أن أوروبا ذاتها لا تملك موقفاً موحّداً ومستقلاً حول الأمن القومي الأوروبي أو حول الاستقلال الاستراتيجي حيث يسعى جاهداً للخروج من تحت المظلة العسكرية والأمنية والسياسية الأمريكية، كما يدرك القادة المجتمعون في تلك القمّة أن روسيا الاتحادية لا ترغب في توسيع الحرب وامتدادها خارج أوكرانيا ولا تهدِّد أمن الدول الأوروبية، فقد أعلن القادة الروس مراراً وعلى جميع المستويات، وتحديداً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استعدادهم للتفاوض مع المعنيين في الحرب وصولاً إلى حل سياسي، مع علم القادة المجتمعين وعلى رأسهم ماكرون أنَّ الدول الغربية وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا أجهضت المفاوضات التي جرت عام 2022، لأنها تريد استمرار الحرب في أوكرانيا بهدف هزيمة روسيا وإضعافها وتقويض وحدتها وتمزيقها من الداخل، وبالتالي إخراجها من سباق إقامة نظام دولي جديد خارج السيطرة الأمريكية. ومع كل ذلك، ما تقوم به فرنسا هو محاولة لترميم الموقف الأوروبي الفاقد للسيادة الاستراتيجية ولن يجد من يلاقيه، وذلك أن الهوة كبيرة في هذا السياق ولم يعُد بمقدور فرنسا ولا رئيسها ماكرون أو غيره من القادة والساسة الأوروبيين، تحميل أوروبا أكثر ممّا تحتمل، فهي تعاني من الوهن والضعف النسبي، وإن قول ماكرون إنه يسعى جاهداً لعدم تمكين روسيا الاتحادية من تحقيق أي انتصار في أوكرانيا موقف مبالغ فيه، إن لم يكن مجرّد سراب، ما دام هناك العديد من الأصوات في أوروبا تطالب القادة المجتمعين بالجلوس إلى طاولة المفاوضات وفقاً لما قاله رئيس مكتب الرئيس الأوكراني أندريه يرماك، إضافة إلى أن القوات الأوكرانية تعاني من الضعف وفقدان السلاح الذي لا تستطيع أوروبا تزويدها به، والذي لا يمكّنها من استرجاع أي قطعة أرض استعادتها القوات الروسية، إلا من الصمود وعدم خسارة أراضٍ جديدة. ولذلك فإن العام الحالي سيكون أكثر تعقيداً وصعوبة للجيش الأوكراني، وأكثر ضموراً وانكماشاً لأوروبا، فما يجري لا يقوى عليه ماكرون ومن معه، وإن الإصرار على هزيمة روسيا القوية في جميع مجالاتها بأيّ ثمن قد يتحوّل إلى صاعق يخلخل ما تبقى من وحدة وتماسك أوروبي يعاني أساساً الانقسام والتشرذم اللذين لم تستطع القمّة الأخيرة في قصر الإليزيه من تجاوزهما.