لا يحقّ لأمريكا أن تحاضر في حقوق الإنسان
د.معن منيف سليمان
شهدت الولايات المتحدة الأمريكيّة انتكاسة تاريخيّة فيما يتعلّق بحقوق الإنسان. فأمريكا التي تنصّب نفسها “مدافعاً عن حقوق الإنسان” سُجّلت فيها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان التي تراجعت تراجعاً شديداً، ما زاد من تقويض الحقوق والحريات الأساسيّة للشعب الأمريكي، كما أنّ أمريكا تستخدم حقوق الإنسان أداةً للتدخّل في شؤون الدول المستقلّة ذات السيادة لتسويغ غزوها وإسقاط أنظمتها الوطنية وتعيين أنظمة موالية بدلاً منها.
يؤكّد الواقع على الأرض أنّ انتهاكات حقوق الإنسان، لا تزال متواصلة في الولايات المتحدة، وخاصّة في مجال العدالة العرقيّة، إذ إنّ الولايات المتحدة تضرب عرض الحائط بهذا المبدأ داخل حدودها، ولا سيما ما يتعلّق بالأقليّات ذات الأصول الإفريقيّة أو من الهنود الحمر السكان الأصلييّن أو العرب وغيرهم.
فالعنصرية تزايدت بشكلٍ مستمرٍّ، حيث تعاني الأقليّات العرقيّة من التمييز على نطاق واسع، وازدادت جرائم الكراهية القائمة على التمييز العنصريّ في الولايات المتحدة بشكلٍ كبيرٍ خلال العامين الماضيين، والمذبحة العنصرية التي وقعت داخل متجرٍ في “بوفالو”، وقتل فيها عشرة أمريكيين من أصلٍ إفريقي صدمت العالم من هولها. وبات الأمريكيّون من أصل إفريقي أكثر عرضة للقتل على يد رجال الشرطة البيض.
هذا بالإضافة إلى المعاناة الناجمة عن نهج الإبادة الجماعيّة والتذويب الثقافي الذي اتبعته الحكومة الأمريكيّة ضدّ الهنود الحمر وغيرهم من السكان الأصلييّن على مدار التاريخ، ولا يزال مستمرّاً حتّى هذا اليوم.
وفي هذا الصدد، قال “فرناند دي فارينيس”، مقرّر الأمم المتحدة الخاص المعني بقضايا الأقليّات: “إنّ النظام القانوني الأمريكي لحماية حقوق الإنسان يعاني من وجه قصور وعفا عليه الزمن، وهو ما أدّى بدوره إلى تزايد انعدام المساواة”.
وواصلت حكومات الولايات المتحدة بذل جهود مكثّفة لتقييد الحقوق الجنسيّة الإنجابيّة، بالسعي إلى تجريم الإجهاض والحدّ من الحصول على خدمات الصّحة الإنجابيّة، فأصدرت عدداً من القيود على الإجهاض في عام 2021 يفوق ما صدر في أيّة سنة أخرى.
وشهدت الولايات المتحدة زيادة كبيرة في انتهاكات عمالة الأطفال منذ عام 2018، وشهدت زيادة نسبتها 26 بالمئة في عدد القاصرين العاملين في مهنٍ خطرة خلال العامين الماضيين.
ولم تتبنَ الإدارة الأمريكيّة سياسات الهجرة واللجوء التي تحترم حقوق الإنسان على الحدود الأمريكيّة ـ المكسيكيّة، وأصبحت قضيّة الهجرة أداةً للمعارك الحزبيّة والانتخابيّة، وافتُعلت مهازل الهجرة على نطاق واسع، ما جعل المهاجرين يواجهون أشكالاً شديدةً من كراهية الأجانب ومعاملة قاسية.
وتحتجز الولايات المتحدة عشرات المعتقلين منذ ما يقارب العقد من الزمن في نظام احتجاز سريّ تديره وكالة الاستخبارات المركزيّة الأمريكيّة، ولم يُقدّم أحد إلى العدالة بسبب الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان التي ارتكبت في ظلّ البرنامج، ومن ضمنها الإخفاء القسري، والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة.
وتساند الولايات المتحدة أنظمة مستبدّة دكتاتوريّة في العالم الثالث، ما يتناقض مع مبدأ حقوق الإنسان، فهذه الأنظمة لا تحترم حقوق الإنسان، ومع ذلك تتلقى دعماً وحمايةً أمريكيّة تتناسب مع المصلحة الأمريكيّة.
وتنتهج الولايات المتحدة سياسة الكيل بمكيالين فيما يتعلّق بحقوق الإنسان، فهي تتجاهل انتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلّة، بل إنّها تسوّغ في بعض الأحيان جرائمه ضدّ الإنسانية بذريعة الدفاع عن النفس، وتقلّص أعداد الضحايا من المدنيين إلى نسبة الصفر، في حين أنّها تصنّف دولاً تدافع عن نفسها ضدّ الإرهاب ضمن لائحة الدول التي لا تحترم حقوق الإنسان فقط لأنّها خارجة عن طاعتها.
ولقد فضحت الحرب على غزّة الدور الأمريكي غير الإنساني الذي تقوم به الولايات المتحدة، وكشفت زيف الشخصية العامّة الأمريكيّة بأنّها مدافع عن حقوق الإنسان، حيث انكشفت أمام العالم كلّه بأنها أكبر منتهك لحقوق الإنسان، وأن ادعاء واشنطن حماية حقوق الإنسان في المحافل الدوليّة ما هو إلا مسرحيّة هزليّة.
لقد أصبح مبدأ حقوق الإنسان وسيلة في يد الولايات المتحدة للضغط وإدارة شؤون العالم وفق ما تمليه عليها مصالحها وأهدافها الاستراتيجية، حتّى إنّها جنّدت المنظّمات غير الحكومية التي تعنى بشؤون حقوق الإنسان للعمل لمصلحتها على حساب خدمة الإنسانيّة.
وفيما يتعلّق بتدخل أمريكا في شؤون البلدان الأخرى باسم حقوق الإنسان قال “ستيفن والت”، أستاذ العلاقات الدوليّة في جامعة “هارفارد”: “يجب على الأمريكييّن أولاً معالجة المشكلات الحاصلة داخل بلادهم وإعادة النّظر في كيفيّة تعاملهم مع بقيّة العالم”.
ولقد تسبّب استخدام الولايات المتحدة لسلاح العقوبات الأحاديّة الجانب في حدوث كوارث إنسانيّة. فقد فرضت واشنطن عقوبات أحاديّة الجانب أكثر من أيّ بلد آخر في العالم، ولا تزال تفرض عقوباتٍ على أكثر من عشرين دولة، ما أدّى إلى عجز الدول المستهدفة عن توفير الغذاء والدواء الأساسيين لشعوبهم.
وتعدّ سورية من بين أبرز تلك الدول التي استهدفتها الولايات المتحدة بالعقوبات منذ القرن الماضي حتّى اليوم، فقد أوضحت “ألينا دوهان”، المقرِّرة الخاصّة المعنيّة بالأثر السلبي للتدابير القسريّة الانفراديّة في التمتّع بحقوق الإنسان، في بيان أصدرته يوم الخميس 22 شباط الماضي، أنّ الولايات المتحدة فرضت عقوبات أحاديّة على الجمهوريّة العربيّة السوريّة منذ عام 1979، تكثّفت خلال العقد الماضي وأعقبها قانون قيصر 2019. وقد شملت هذه العقوبات الرئيسة والثانويّة السلع والخدمات والتكنولوجيا والمعلومات، وهو ما يتضمّن العديد من العناصر التي تستخدم في مجالات الحياة، والصرف الصحي والنظافة، والصّحة.
وقالت المقرّرة الأمميّة إنّ العقوبات وضعت على البلاد قيوداً “زادت تداعيات خطيرة” على مجموعة واسعة من حقوق الإنسان، وإنّ ما يقارب 70 بالمئة من السوريين يحتاجون إلى المساعدة الإنسانيّة بسبب تدمير البنية التحتيّة الحيويّة، بما في ذلك الوصول إلى المياه والصرف الصّحي والتدفئة والكهرباء والغذاء والدواء، مع شبه استحالة في جهود إعادة الإعمار نتيجة تأثير العقوبات الأحاديّة والإفراط في الالتزام بها.
ونبّهت “دوهان” إلى أنّ مشروع القانون الأمريكي يتجاوز الولاية القضائيّة للولايات المتحدة، ويسعى إلى الضغط على الحكومة السوريّة ودولٍ ثالثة.
إنّ التسييس والتمييز والانتقائيّة لحقوق الإنسان التي تمارسها الولايات المتحدة، باتت أمراً مرفوضاً يستفزّ الأحرار في العالم، ويستوجب على مجلس الأمن من باب الحرص على حماية حقوق الإنسان أن يحاسب فظاعة الولايات المتحدة ضدّ الإنسانيّة، وغزوها لدولٍ مستقلّةٍ ذات سيادة، وقتلها للمدنيين الأبرياء، في انتهاك صارخ للقوانين الدوليّة، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة.