المطابخ ورشات والصالونات مشاغل والأسطح معارض.. الخناق الاقتصادي يحرض الأسر على المشروعات “متناهية البساطة”
علي بلال قاسم
بين بلكونة مدينة مزدحمة بأحواض تربة يستنبت فيها قليل من المزروعات والحشائش، وأسطح بيوت ضيعة مشغولة بمجففات فواكه وخضراوات وحبوب، ثمّة مشهد بلدي لتوطين مناشط وتطويع قدرات إنسان استطاع عبر سفر الأسلاف أن يحدث فرقاً في مذهب “الاعتمادية الذاتية”، لتحرّض عوامل الظروف المعيشية ومسبّبات قلة الحيلة المجتمع السوري على خلق أشكال وأنماط من التحايل على الأزمة الاقتصادية بأدوات البساطة والتدبير النسائية وأيدي الرجال المهرة. والنتيجة أن خلف تلك “البلكونات” وتحت مساحات السطوح بيوت لم تعد – بتغيرات الأحوال – مجرد شقق للسكينة ومنازل للراحة، فإرادة الحياة وجبروت المواجهة حوّلت الكثير من غرف وردهات العائلات إلى ورشات ومشاغل متعدّدة التخصّصات. وعليه تفتحت عين الحاجة على خلايا إنتاجية صغيرة لزوم تعزيز جبهات مقاومة ومواجهة المواصيل المادية المتردية لأناس باتوا في موقع مواجهة “زنقات الأيام” من فواتير أكل وشرب ودواء متضخمة، وصولاً إلى تكاليف بدلات إيجار وأقساط تعليم متعاظمة، ليكون الحلّ بأن “نشعل الأصابع بالشغل لا أن نلعن الظروف”، كما حرصت أم يوسف على تحوير متلازمة الشمعة والظلام – وهي التي لا تكلّ ولا تملّ ولا تهدأ إلا بسلطان النوم – باستثمار كلّ شبر مربع وتوظيف أي “حاكورة” لتشكيل عناقيد مردود وفرص دخل ميدانها وإكسير نجاحها منتجات جاهزة للبيع أو مشغول عليها بقيم مضافة، وفي أضعف الإيمان استقلال منزلي من غول الأسواق وتوفير من أسعار كاوية.
“كوريدورات اقتصادية”
في حتمية الصيرورة والتحدي التي لا يعترف فيها ابن هذه الأرض بالاستكانة والقنوط، هناك فسحات عمل ميدانها أراضٍ يحرص أصحابها على استصلاحها والاشتغال بها وغرسها، ولو تطلّب الأمر خلع الياقات البيضاء وبدلات “الأستذة” و”الدكترة” بكل التخصّصات العلمية والأدبية والفكرية، وتأبط المعاول والمناجل بما تيسر من هندام “غبرة التراب”. وهذا هو الدافع الذي جاء بالمهندس “إبراهيم” لزيارة قريته واستطلاع أرضه الموروثة، ليجيب على سؤالنا: “شو يا أستاذ.. ما في بالعادة ؟؟!!”، بالرد غير المستبعد: “يا أخي.. ما عاد توفي معنا.. عم نشتري زيت الزيتون بالوقية… وكرمي متروك ومحصوله بالملايين السنوية”.
هو مشهد لا يختلف كثيراً عن صورة ابن المدينة ونوعية النشاط التجاري والخدمي المطلوب، حيث باتت الكثير من البيوت “كوريدورات اقتصادية” تزوّد الأسواق ليس بالخضار المنقاة والمجهزة لزوم “سوق الكسالى والتنابل فقط”، بل لدرجة إعداد وطهي الوجبات والطبخات والأكلات الشعبية التي تحرص أفخم المطاعم على تقديمها لزبائنها من درجة الـ vip والتفاخر بأنها “شغل ربات بيوت”، وهذا ما يستطعمه ويطمئن إليه أهم الرواد وأدسم “الدفيعة” كما تقول الست “أم رافع”، وهي تهمّ بإرسال طناجر “المجدرة والبرغل ببندورة والكبة والمحشيات” مع ابنها ليوزعها على متن دراجته الهوائية للمحال والمولات والمطاعم التي اتفقت وتعاقدت معها في نشاط يومي تقوم به، وهي في عقر دارها، دون أن تتكلف سوى بالمواد الأولية والتي تعود بمرابح البيع، إذ باعترافها قالت: “إن المطاعم تدفع.. خير الله” مقابل اللقمة الطيبة والنفس الشهي من تحت إيدي”.
أنموذج “ست المطبخ”، وما يمكن أن تبدع فيه الطاهية السورية من كل صنوف الوصفات والأطعمة، جعل مطابخ الكثير من “القادرات المدنيات والريفيات” ورشة لا تقتصر على الطبخ، بل تتعداه لتحضير مرطبانات المونة بكل أشكالها وأكياس الخضراوات والأعشاب المجففة، لنشهد مؤخراً عدداً من الحالات التي طوّرت فيها النسوة الخبيرات والشاطرات أسلوب و”أمبلاج” البيع لتلصق على العبوات والأكياس ملصقات بمثابة الماركة “مطبخ أم تيسير”، و”مشغل آمال” و”المدبرة هبة”، مع وسيلة ورقم تواصل هاتفي أو إلكتروني أو صفحة تواصل اجتماعي، وهنا نحن أمام مجال مختلف راح الكثيرون يصوّرون نشاطهم ويسوقونه عبر منصات شخصية عليها آلاف المشاهدين ولها ملايين المتابعين.
من الصفر
وفي مقلب آخر بعيد عن روائح المطابخ، هناك تجارب من الإنتاج المتعلق بالخياطة والحياكة والتطريز، وفي رحلة “السيدة روز” إنجازات انتصرت فيها على مأساتها بالتهجير من حرستا ومعاناتها بالاستئجار، وهي التي خسرت مشغلها “الحلم” وبدأت من الصفر بالذهاب إلى سوق الحريقة بشكل يومي لاستلام مشغولات تحتاج لمسة ماهرة وذكية منها لتشييك فستان أو تزيين تنورة أو بلوزة بالخرز والإكسسوارات التي تشتريها من السوق وتسلمها للمحال مقابل مبلغ على القطعة، ومازالت على هذا المنوال أكثر من عشر سنوات استطاعت خلالها أن تستقر بمنزل وتنفق على تعليم أولادها الجامعيين دون حاجة ولو لجمعية خيرية أو معونة جهة ما.
ويعايش معظمنا حالات لربات بيوت، غير موظفات سابقاً، رحن يستثمرن غرفة من بيوتهن لاستيعاب أطفال بعمر الرعاية المبكرة عددهم مقرون بقدرة الغرفة على التحمل من خمسة وعشرة وأكثر من الأطفال الذين تضطر أمهاتهم لتأمين العناية بهم وهن في عملهن أو وظيفتهن أو بسفرهن، ومنهن من طور الأمر لتستأجر منزلاً وتستثمره كروضة مصغرة إن أفلتت من رقابة المنع التربوي وإن وقعت بالمخالفة تتفق مع خريجة ومتخصّصة تربوية لتتشاركا في الترخيص والعناية والإشراف، وهذا ما أكدته “السيدة وصيفة” التي طورت إمكانياتها وحدثت من أدواتها وأصبحت مشهورة في حيها بكثرة نظافتها ولباقتها وحضاريتها بالتعامل مع الطفولة التي باتت تتعلق بها أكثر من أمهاتها – كما تروي – بأجور وأسعار متواضعة ومقبولة ترحم الأهالي، مضيفة بصراحتها اللطيفة: “بس الله وكيلك أستاذ الأهالي بيكرموني كتير وأغلبون بيعطوني أكتر من المتفق عليه.. المهم يطمئنوا على أولادهم”.
“لأنو نظيف وطيب”..
وبالعودة إلى فناءات دور القرى، يتوسّع كادر الصورة على حراك مسرحه الهواء الطلق، ففي شهور المواسم تحوّلت الأسطح والمساحات المجاورة لبيادر ومسطحات لتنشيف “سليق الحنطة”، في عودة جماعية للعادات والتقاليد الموروثة الأكثر وفرة وتوفيراً التي تتكئ على ما تجود به الأرض لتأمين مونة البرغل والفريكة، مع زراعة وحصاد الحبوب والبقوليات لزوم البيت في أقل النشاطات تواضعاً، وصولاً لإصابة جلّ النساء بالغيرة من “أم تيسير” التي راحت تزرع أكثر من احتياجاتها وتذهب باتجاه التحضير والتعبئة والتغليف البسيط والبيع. وهنا تقول لنا إنها باتت “معروفة ومشهورة في القرى والبلدات المجاورة”، مستفيضة بأن الكثيرين يتصلون من المدينة “أبناء ريف متمدنون وآخرون حضريون” يسجلون طلبيات حالية ومستقبلية.. “كلهون بيحبو شغلي لأنو نظيف وطيب وأرخص من السوق الجاهز” – تفيد محدثتنا – التي راحت تسوق للكثيرات من مواطناتها بنات الضيعة اللواتي يتخصّصن بمجالات أخرى، ومنهن “أم علي” تلك المرأة العنيدة والشقية التي قدمت نفسها بخجل وتواضع البساطة التي “لا تعرف تحكي متل الجرايد” – حسب وصفها – ولكن حين تطلع على صنائعها من أطباق وصحون ومواعين التين المجفف المشغول بعناية فائقة ولفائف الملبن وحبات الزبيب الذهبية الموضوعة بعلب تشتريها من المتاجر، تكتشف أنك أمام إبداع يدرس بعلوم الحياة وخبرة تجارب السيدة العتيقة بتطويع كلّ ما تنتجه أشجار التين والعنب والتفاح والخوخ واللوز والجوز. وتشرح: “لا أشتري شيئاً.. الله وكيلك” كله من أرضنا.. أمضي الصيف كله أجمع وألمّ التينات وحبات التفاح والخوخ المتساقطة وأنظفها وأعدّها كمجففات أو مربيات ومعقود وأحضر الخلّ من التفاح الذي لطالما كنا نرميه ونتخلص منه “بلاش” معظمه أعصره خلاً ودبساً وملبناً وصنوفاً جديدة من الحلويات، وأزينها بالجوز واللوز من أرضنا، بمساعدة ابني الذي يقوم بالتغليف والتنسيق والصف ويعرض ما نصنعه على صفحته على الفيس ونبيع “رزق الله”، ومؤخراً اشترى ولدي كما الكثيرين مكبساً لزوم ضغط التين والزبيب وتغليفه بالمكنة حتى يحافظ على جودته وطعمته ونقائه.
لا رعاية ولا توجيه
وبجولة غنية في إحدى القرى الشهيرة بزراعة التين والعنب والزيتون والتفاح، رحنا نكتشف قصصاً من الشطارة والمهارة البيتية الريفية البسيطة التي تضاهي ما يتباهى به أهم المعامل وخطوط الإنتاج الحديثة، ففي كل بيت حكاية مشروع صغير وآخر صغير جداً والقليل المتناهي بالصغر، وجلّها تدعم البيت بمؤونته السنوية وتبيع الفائض، لدرجة أن عدداً لا بأس به من النسوة يشتري مواسم ويضمن بساتين لإعداد منتجات من هذا القبيل، وحين السؤال عن دعم وزارة الزراعة (مديرية المشاريع الريفية)، كان الجواب واحداً: “نحن نعمل بمبادرة ذاتية وبحكم الحاجة وعملنا لا يحتاج توجيهاً رسمياً ولا رعاية حكومية”، وهنا سرّ النجاح كما يقول “الأستاذ مضر” الذي نجح في شغل التين وصدّره للمحافظات، وهناك من حمله معه في سفراته وزياراته الداخلية والخارجية كهدايا فخمة و”أكابرية” التقديم، وعن التسويق أضاف: كل يسوّق بإمكانياته وبشكل فردي دون تدخل من التجار الذين يحاولون كثيراً الاستحواذ على المواسم كمادة أولية أو نصف مصنّعة، مستغلين الفلاحين وبساطة الكثير من النسوة اللواتي ينشطن في هذا المجال، ولكن ثمة يقظة وكل السيارات الجوالة تفشل إلا بحدود ضيقة.
تفضيل تصنيعه
وعبر التجوال في معظم الريف، هناك استثمار حقيقي لخصوصية ما تقدّمه البساتين والكروم، ففي ريف اللاذقية – حدثتنا زميلتنا – عن أختها التي تقوم بعصر صنوف ونوعيات الحمضيات وإعداد أنواع لذيذة من العصائر المركزة والمكثفة وتعبئتها في عبوات وبيعها في الأسواق وللمعارف والأصدقاء، كما استطاعت اقتناء أداة تقطير زهرة الليمون والبرتقال المتساقطة وصناعة ماء الزهر الذي تفوح منه رائحة عطرة وذكية جداً، في وقت لا ترتضي بيع الموسم بسعره البخس، وتفضيل تصنيعه بقيم مضافة ومرغوبة، وهي بخطوتها واجتهادها تفوقت على توجهات مؤسساتية فشلت في توطين معامل، وهي ذاتها زوّدتنا برقم صديقتها “زهرية” التي قدمت لنا تجربتها في جمع وقطف النباتات العطرية والأزاهير والحشائش البرية التي تكتنز بها الجبال والوديان وتقوم بتجفيفها وتعبئتها وبيعها في السوق، كما تقطف الكثير من النباتات الطبيعية “السليق” وتنظفه وتبيعه طرياً طازجاً في يومه للزبائن، مع ما زرعته في “حاكورتها” من عشبيات زرعية، بالتزامن مع حرصها على الإكثار من مرطبانات الزيتون والعيتون والمكدوس والشنكليش واللبنة والجبنة بالتعاون والتضافر مع زوجها وأولادها.