تقارب الجنوب العالمي من القطب الصاعد الروسي
هيفاء علي
بدا الجنوب العالمي بأكمله تقريباً وكأنه ممثل في قاعة في مركز لومونوسوف للابتكار عندما استضافت موسكو مؤتمراً متعدّد الأقطاب على التوالي، فضلاً عن الاجتماع الثاني للحركة الدولية لمحبّي روسيا “مير”. وقد قدمت المناقشات والتواصل مؤشراتٍ مبشرة لبناء نظام دولي تمثيلي حقيقي، بعيداً عن الهلاك والكآبة التي تفرضها أجندة الثقافة الواحدة الأحادية القطب والحروب التي لا نهاية لها.
ترأست المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا الجلسة العامة الافتتاحية لليوم الأول، وكانت رسالتها الرئيسية واضحة تماماً: “لا يمكن أن تكون هناك حرية دون إرادة حرة”، وهو ما يمكن أن يصبح بسهولة الشعار الجماعي الجديد لدول الجنوب العالمي.
لقد حدّدت “دول الحضارة” أسلوب المناقشة العامة، حيث إنها تصمّم بدقة خطط التنمية الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية في عالم ما بعد الهيمنة الغربية. وقد لخّص تشانغ ويوي، أستاذ العلاقات الدولية في معهد الصين بجامعة فودان في شنغهاي، النقاط الأربع الحاسمة لكي تلعب بكين دورها باعتبارها مركزاً مستقلاً جديداً لتبدو بمنزلة علامة موجزة للوضع الحالي، وأولى هذه النقاط أنه في ظل النظام الأحادي القطب، يمكن استخدام كل شيء بدءاً من الدولارات حتى الرقائق الدقيقة كسلاح في الحروب الملوّنة والثورات.
وثانيها أن الصين أصبحت أكبر اقتصاد في العالم من حيث تعادل القوة الشرائية، وأكبر اقتصاد تجاري وصناعي، وهي حالياً في طليعة الثورة الصناعية الرابعة.
والنقطة الثالثة هي أن الصين طرحت أنموذج “اتحدوا وازدهروا” بدلاً من أنموذج “فرّق تسد” الغربي. أما النقطة الرابعة والأخيرة فهي أن الغرب حاول عزل روسيا، لكن الأغلبية العالمية تتعاطف معها، وهكذا، تم عزل الغرب الجماعي من بقية العالم.
وحسب الصحفي والمحلل البرازيلي بيبي اسكوبار، الذي كان حاضراً في هذا المؤتمر، فإن الأغلبية العالمية هي اسم اللعبة، وينطبق الشيء نفسه على “المليار الذهبي”، الذي يمثله أولئك الذين يستفيدون من لحظة القطب الواحد، بشكل رئيسي من خلال الغرب الجماعي ويبلغ عددهم في أحسن الأحوال حوالي 200 مليون فقط.
اسكوبار هو الذي أدار جلسة الجنوب العالمي التي استمرّت أكثر من ثلاث ساعات، وكان من الممكن أن تستمرّ طوال اليوم في الواقع، وقد تضمّنت العديد من العروض المذهلة من الأفارقة وأمريكا اللاتينية والآسيويين، من فلسطين إلى فنزويلا، وأبرزهم مانديلا مانديلا. وهكذا كان الجنوب العالمي المتعدّد الأقطاب يسير على قدم وساق وفتح الباب أمام أكبر عدد ممكن من الناس، بينما شدّد مانديلا على أن الوقت قد حان للابتعاد عن النظام الأحادي القطب الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة التي تدعم “إسرائيل” في عدوانها الوحشي على غزة، وقد استكملت هذه المداخلة بمداخلة الناشط كيمي سيبا، من جمهورية “بينين” الذي يجسّد ببراعة القيادة الإفريقية للمستقبل، وقد طرح خلال الجلسة العامة مفهوماً أساسياً يجب تطويره في جميع أنحاء العالم: نحن نشهد “حرباً ثيوقراطية سياسية”، إذ يلخّص هذا المفهوم الحرب الهجينة التي يشنّها الغرب في وقت واحد ضد جميع الأديان.
وفي اليوم التالي، عرض المؤتمر الثاني للحركة الدولية المناصرة لروسيا ثلاث جلسات نقاش: ركّزت أكثرها صلة بالموضوع على “حرب المعلومات والحرب الهجينة”. يقول اسكوبار: كان لي شرف مشاركة المسرح مع زاخاروفا حيث كان الاقتراح الذي قدّمته، ليس فقط إلى وزارة الخارجية الروسية، بل أيضاً إلى الجميع في الجنوب العالمي، بسيطاً: انسوا وسائل الإعلام التقليدية التي تسيطر عليها الأوليغارشية، فهي ميتة بالفعل، ليس لديها أي شيء ذي صلة لتقوله، مضيفاً: إن الحاضر والمستقبل يعتمدان على وسائل الإعلام الاجتماعية، ووسائل الإعلام “البديلة” التي لم تعُد بديلة، بل وسائل إعلام المواطن، التي يجب بطبيعة الحال أن تطبّق عليها المعايير الصحفية الأكثر صرامة.
ومن ثم تطرّق اسكوبار إلى لقاء وزير الخارجية الروسي مع المجتمعين، حيث بدا مرتاحاً بين الأصدقاء، وبعد أول جولة دبلوماسية مبهرة غطّت عدداً من النقاط البارزة في العقود الأخيرة وحتى الوضع الكئيب الحالي، فتح الطاولة على أسئلة الصحافة، وقام بتدوين الملاحظات والردّ على كل منها بالتفصيل. والأمر اللافت للنظر في وقوفه وجهاً لوجه مع أكثر الدبلوماسيين الأسطوريين في العالم لبعض الوقت، في جو مريح، هو حزنه الصادق في مواجهة الغضب والتعصب والانتقادات المطلقة التي أبداها الأوروبيون على وجه الخصوص. وطوال فترة المحادثات، كان هذا الجانب أكثر أهمية بكثير من حقيقة أن العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا في أدنى مستوياتها على الإطلاق.
ولكن لافروف يظل متحمّساً للغاية للجنوب العالمي والأغلبية العالمية، فضلاً عن رئاسة روسيا لمجموعة بريكس هذا العام، بينما أشاد بوزير الخارجية الهندي جايشانكار والعلاقات الشاملة مع الصين، واقترح أن تلعب حركة مناصري روسيا دوراً عالمياً، واقترح بطريقة مازحة أنه يجب أن نكون جميعاً جزءاً من حركة “المحبين العاديين”. لافروف الأسطورة معروف أيضاً بروح الدعابة التي يتمتع بها، وتكون الفكاهة أكثر فعالية عندما تكون جدية للغاية، حسب تعبير اسكوبار.