الولايات المتحدة تحاول إعادة التصنيع إليها
هناء شروف
بعد الأزمة المالية عام 2008 أدركت النخب السياسية في الولايات المتحدة أهمية التصنيع. فمن استراتيجية إعادة التصنيع لإدارة باراك أوباما إلى مبادرة إدارة دونالد ترامب “لإعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة”، والآن خطة إدارة جو بايدن لإحياء التصنيع في الولايات المتحدة، كانت الأمة تضغط من أجل إحياء التصنيع المحلي من خلال تقديم حوافز للمنتجات المحلية الصنع وتشديد قواعد شراء المنتجات الأمريكية وتحسين النظام البيئي للإبداع الصناعي وتبنّي تدابير حمائية.
ومن خلال هذه الجهود تم إحراز بعض التقدم في المساعي لإعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة ولكن الهدف لم يتحقق بالكامل.
على الرغم من انتعاش الصناعات التحويلية في الولايات المتحدة، تظل عملية التصنيع في الولايات المتحدة “مجوفة”. وارتفعت القيمة المضافة للتصنيع في الولايات المتحدة من 1.7 تريليون دولار في عام 2009 إلى 2.79 تريليون دولار في عام 2022، كما ارتفع الإنفاق على البناء، ومع ذلك فإن القيمة المضافة للصناعات التحويلية في الولايات المتحدة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي كانت تتناقص إلى أدنى مستوى منذ الأزمة المالية. ولا يزال الاقتصاد الحقيقي ضعيفاً مقارنة بالاقتصاد الافتراضي، حيث تكون القيمة المضافة للتصنيع أقل من الصناعات المالية والخدمات.
كذلك لم تنجح الوظائف المتزايدة في قطاع التصنيع في إعادة بناء الطبقة المتوسطة في البلاد. وتشير البيانات الصادرة عن مكتب إحصاءات العمل الأمريكي إلى أن عدد العمال العاملين في قطاع التصنيع ارتفع من 11.59 مليوناً في عام 2009 إلى 13.53 مليوناً في عام 2022 مع انخفاض معدل البطالة من 10 في المائة إلى 3.5 في المائة. ومع ذلك تقلّصت حصة الدخل الإجمالي الأمريكي الذي كسبته الطبقة المتوسطة من 45% في عام 2011 إلى 42% في عام 2020. وتثبت الأرقام أن سياسة إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة لم تعالج عدم المساواة في الدخل في البلاد، كما فشلت في رفع حصة الطبقة المتوسطة من الدخل.
أدّت إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة إلى تعزيز مرونة سلاسل التوريد الأمريكية، ولكنها لم تغيّر اعتمادها على الصين، ومنذ اتخاذ التدابير اللازمة لإنعاش التصنيع، سجّلت المنتجات المصنوعة في الولايات المتحدة رقماً قياسياً مع انخفاض استيراد السلع الأجنبية. من ناحية أخرى أصبحت مصادر الواردات الأمريكية أكثر تنوّعاً، حيث أصبح المزيد من السلع التي كانت تُشترى من الصين يأتي الآن من المكسيك أو كندا أو فيتنام، ومع ذلك، اعتماد الولايات المتحدة على الصين لا يزال قوياً، فمعظم السلع التي تستوردها الولايات المتحدة الآن من المكسيك وكندا وفيتنام ترتبط بعلاقات تجارية واستثمارية مع الصين.
ويمكن أن نعزو فشل استراتيجية إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة في الوصول إلى الهدف المنشود إلى ثلاثة أسباب، أولها أن الاختلاف بين الحزبين بشأن النهج المتبع في تنشيط التصنيع كان سبباً في تأثير سلبي على تنفيذ السياسات. وفي حين يفضّل الديمقراطيون حكومة أكبر ويؤيّدون تعزيز التصنيع المحلي من خلال زيادة الاستثمار العام والإعانات الحكومية، فإن الجمهوريين يريدون حكومة أصغر ويسعون إلى جذب شركات التصنيع مرة أخرى وخفض تكاليف المنتجات المصنوعة في الولايات المتحدة من خلال خفض الضرائب وزيادة الرسوم الجمركية.
ومنذ أن استعاد الحزب الجمهوري السيطرة على مجلس النواب في انتخابات التجديد النصفي لعام 2022 واقترب موعد الانتخابات الرئاسية لعام 2024، تواجه مبادرات التصنيع لإدارة بايدن معارضة شديدة من الجمهوريين، حيث تعهّد ترامب المرشح الرئاسي الجمهوري البارز بإلغاء الإعفاءات الضريبية على السيارات الكهربائية التي تم سنّها في قانون خفض التضخم في أول يوم له في منصبه إذا تم انتخابه، الأمر الذي سيضرّ بالتأكيد بتنمية صناعة السيارات الكهربائية في البلاد.
وثانيها أن الولايات المتحدة تعاني نقص العمالة، ووفقاً لبيانات مكتب إحصاءات العمل الأمريكي سجّل القطاع الخاص عجزاً قدره 8.01 ملايين عامل في نهاية كانون الأول 2023 مع وجود 601 ألف وظيفة شاغرة في مجال التصنيع. بعد دخول قانون الحدّ من التضخم وقانون تشيبس والعلوم حيّز التنفيذ، شهدت الولايات المتحدة نقصاً متزايداً في مصانع الطاقة النظيفة ورقائق أشباه الموصلات، حيث تشير التقديرات إلى أن 1.4 مليون وظيفة ستكون شاغرة بحلول عام 2030. والافتقار إلى الاهتمام بالوظائف العمالية بين جيل الشباب يزيد من تعقيد صعوبات التوظيف في قطاع التصنيع على المدى الطويل.
وثالثها أنه نظراً لارتفاع تكاليف العمالة والأراضي في الولايات المتحدة فإن العديد من شركات التصنيع لم تعُد إلى الولايات المتحدة بل انتقلت بدلاً من ذلك إلى بلدان أخرى منخفضة التكلفة في آسيا أو المكسيك. علاوة على ذلك كان ضعف البنية الأساسية والإمدادات غير المستقرة من المواد والمكوّنات والشبكة غير المكتملة من المورّدين في المراحل الأولية والنهائية، سبباً في إضعاف حماسة الشركات المصنّعة للعودة إلى الولايات المتحدة.