باحِثُونَ ومُهتمُّونَ في حضرةِ الـمُفكِّر الرَّئيس
د. محمد الحوراني
لم يَكُنْ لقاءُ السَّيِّدِ الرئيس بشّار الأسد، يوم ٢٢-٢-٢٠٢٤، لقاءً عاديّاً وعابراً، بل يُمكنُ القولُ إنّهُ من أهمِّ اللقاءات التي يُمكِنُ أن تُؤسِّسَ لمرحلةٍ جديدةٍ من تاريخِ الحزبِ، وعلاقتِهِ بالمُجتمعِ والسُّلْطةِ في سورية؛ في حالِ الإفادَةِ منهُ، وجَعْلِ ما قيلَ فيه وما طُرِحَ ونُوقِشَ خُطّةَ عملٍ وإستراتيجيّةً للنُّهوضِ من الواقع الذي عِشناهُ مُدّةً طويلةً، وهو واقعٌ يحملُ السلبياتِ والإيجابياتِ بالتأكيد، وانطلاقاً منهُ أتى تأكيدُ الرفيقِ الأمين العامِّ خطأَ المَقُولَةِ الراغبةِ في العودةِ إلى ما قبلَ الحربِ الإرهابيّةِ التي عَصَفَتْ بسورية، وأرادَتِ النَّيلَ منها، ذلكَ أنَّ هذه الحربَ، بما حَمَلَتْهُ من كوارثَ وويلاتٍ على المُجتمعِ السُّوريِّ ودولتِهِ الوطنيَّة، كشفَتْ كثيراً من السلبياتِ والثّغراتِ، ونَجَحَتْ في تعريةِ الكثيرينَ، وهو ما من شأنِهِ أن يدفعَ الكُتّابَ والمُهْتَمّينَ إلى قراءةٍ واعيةٍ، وتسليطِ الضوء على مكامنِ الخطأ؛ فالثقافةُ مُنحازةٌ إلى المُستقبلِ والإنسانِ، وكاشفةٌ عُيوبَ المُجتمَعِ وأخطاءَ السُّلْطةِ، ومُعبِّرةٌ عن الضَّميرِ الجَمْعيِّ للمُجتمعِ، والمُثقَّفُ الحقيقيُّ يرفضُ النُّزولَ من مُرتَفَعاتِهِ المَعْرِفيَّةِ اليانعةِ إلى قِيعانِ الوديانِ المُجْدِبَةِ؛ التي يَتَسيَّدُها الدَّاعُونَ إلى نَشْرِ الجهلِ، ومُرَوِّجُو الخُرافاتِ المُعْتاشُونَ على ترسيخ الأساطيرِ واجترارِها بغيةَ استمرارِ حالِ الضّعفِ والتَّردِّي، التي يُمكِنُ أن يقتاتَ عليها بعضُهمْ من أجلِ الاستمرارِ في التَّغوُّلِ على النّاسِ والسَّيْطَرةِ على مقدراتهم، وهم، إذ يَفعلُونَ هذا، فإنّما يُوهِمُونَ بَعْضَهُمْ؛ بِحِرْصِهِمْ على التغييرِ والتطويرِ مِنْ دُونِ تقديمِ الرُّؤى والإجراءاتِ الشَّاملةِ؛ التي من شأنِها أن تُحْدِثَ تغييراً كبيراً ومُؤثِّراً داخِلَ الحزبِ وبنيتِهِ المُجْتَمَعِيَّة.
وانطلاقاً من هذا، لا يُمكنُ الحديثُ عن تغييراتٍ جذريةٍ شاملةٍ، تَعْقُبُ العمليّةَ الانتخابيّةَ في الحزب، ولا سيّما حينَ يغيبُ الوعيُ عن المُشاركةِ في العمليّةِ الانتخابيّةِ. فلا يُمكِنُ للحزبِ أن يكونَ فاعلاً ومُؤثّراً إلّا حينَ يكتسبُ المعرفةَ الحقيقيّةَ للواقعِ مِنَ المُجتمعِ عَيْنِهِ، ثمّ يُعِيدُ الحزبُ والقُوى المُجتَمعيّةُ كافّة صياغةَ حركةِ التغيير بالفِكْرِ والتنظيمِ والبرامج التنفيذيّة، حِينَئذٍ يُمكِنُنا القولُ إنَّ الانتخاباتِ الحزبيّةَ لم تَعُدْ مَحْضَ إجراءٍ يستعجلُ بَعْضُهُمْ حُدوثَهُ في السُّرعةِ القُصْوى، أمَلاً في وُصُولِ مَنْ هُمْ خارجَ المواقعِ القياديّةِ إليها، لا لامتلاكِ بَعْضِهِم الرُّؤيةَ الشاملةَ والفِكْرَ الحصيفَ، والنَّظْرةَ الثاقبةَ لتطويرِ فِكْرِ الحزبِ وآليّاتِهِ، بلْ لتَكُونَ الانتخاباتُ رافعةً لهم لتحقيقِ طُموحاتِهِم السُّلْطَويَّة، ومِنْ ثمَّ نفقدُ الهدفَ الرئيسَ الذي أتَتِ الانتخاباتُ لتحقيقِهِ، ذلكَ أنَّ التَّحدِّي الكبيرَ والعملَ الحقيقيَّ يأتيانِ في مرحلةِ ما بعدَ الانتخابات، لا قَبْلَها، وهو ما يحتاجُ إلى منظوماتِ عملٍ مُتَكامِلَةٍ، وبعيدةٍ عن التَّفرُّدِ والشَّخْصَنَةِ، وهي منظوماتٌ ترتكزُ في أساسِها على الحوارِ الحقيقيِّ البنّاءِ الذي ترتكزُ عليهِ عناصرُ التطويرِ والنُّهوضِ المُجتَمعيّ.
مِنْ هُنا، كانَ تأكيدُ السَّيِّد الرئيس على الحِوارِ البنَّاءِ القادِرِ على تحويلِ الأشخاصِ إلى مَعاييرَ، وهو ما من شأنِهِ أن يَصِلَ إلى التَّغييرِ الحقيقيِّ والنُّهوضِ المَنْشُود، أمّا حينَ تغيبُ المنظومةُ القائمةُ على أُسُسٍ صحيحةٍ فإنَّ أفضلَ الأشخاصِ وأكثرَهُمْ كفاءَةً وخِبرةً سيَكُونُونَ عاجِزينَ عن القيامِ بأيِّ عملٍ حقيقيٍّ ومُؤثِّرٍ؛ مِنْ شأنِهِ أن يُحْدِثَ انقلاباً أو تغييراً جذريّاً في أداءِ السُّلْطةِ وعقليّةِ المُجتمَع. حتّى وإنْ نَجَحُوا في وَضْعِ القوانينِ الجيّدةِ، لأنّهُمْ لن يَتمكّنُوا من الحصولِ على النتائجِ الجيّدةِ والمَرْجُوّةِ منها.
وانطلاقاً مِنْ هذا، كانَ تأكيدُ التفاعُليّةِ والديناميكيّةِ في عملِ القياداتِ الحزبية، وتأكيدُ العملِ الجماعيِّ والتَّشارُكيِّ بينَ المُؤسَّساتِ والاتّحاداتِ والنّقاباتِ وغيرها، لا أنْ يبقى كُلٌّ منها يعملُ، كأنّهُ جزيرةٌ مُستقلّةٌ في منطقةٍ نائيةٍ من العالم.
لقد أكّدَ الحوارُ الأخيرُ معَ الرفيقِ الأمينِ العامِّ للحزبِ عُمْقَ رُؤيَتِهِ ونَفاذَ بصيرتِهِ، ومَعْرِفَتَهُ العميقةَ بكثيرٍ من المُشكِلاتِ؛ التي ينبغي الوقوفُ عندَها لإيجادِ الحُلولِ الجذريّةِ لها، كما أنّ حديثَهُ عن التجربةِ الصّينيّةِ مرّاتٍ عدّةً في أثناءِ الاجتماع حملَ كثيراً من الدلائلِ والمُؤشِّراتِ، فتجربةُ الحزبِ الشُّيوعيِّ الصّينيِّ تتقاطَعُ في بعضِ جوانبِها معَ تجربةِ حزبِ البعثِ، لكنَّ الفارِقَ في الأداءِ كانَ كبيراً، ولهذا فإنّ تجربةَ بناءِ الدولةِ الصينيّةِ والنُّهوض بها على الصعد كافّةً كانَ كبيراً، بعَكْسِ التّجربةِ السُّوريّةِ التي تحتاجُ إلى كثيرٍ من النَّقْدِ والمُراجَعة، حتى تصلَ إلى المُستوى المطلوب، ومِن هُنا كانَ تأكيدُ سيادَتِهِ التَّنوُّعَ، ومتى يُمكِنُ أن يكونَ غِنىً، فَحينَ نُحْسِنُ إدارةَ التَّنوُّعِ يتحقّقُ الغنى، وحينَ لا نُحْسِنُ إدارةَ التَّنوُّعِ تَعْصِفُ بنا المصائبُ، ويكونُ التنوُّعُ وبالاً على مُجتمعاتِنا.
أخيراً، يُمكِنُني القولُ: إنَّ السَّيِّدَ الرئيسَ في هذا اللِّقاءِ كانَ المُفكِّرَ العارِفَ بوَجَعِ النّاسِ ومُعاناتِهِمْ، والحريصَ على وَضْعِ الحُلولِ لكثيرٍ من المُشكلاتِ التي نُعاني منها، وهي حلولٌ ينبغي لنا أن نتشارَكَ جميعاً في إيجادِها ووَضْعِ الخططِ والرُّؤى والإستراتيجيّاتِ لتنفيذِها، وهو ما لا يتحقّقُ بمُصطلحاتٍ مُرْبِكَةٍ وجُمودٍ نظريٍّ وفكريٍّ؛ لا يُمكِنُ أن تقودَ إلّا إلى مزيدٍ من التَّهْشِيمِ والتَّهْمِيش.
لقد آنَ الأوانُ للابتعادِ عن التفكيرِ في السُّلْطَةِ ومُكْتَسباتِها، والتفكيرِ في آليّاتٍ قادرةٍ على اجْتِراحِ الحُلولِ الحقيقيّةِ، قبلَ التفكيرِ في الكَسْبِ وزيادَةِ الثَّرَواتِ، آليّاتٍ تجعلُ تركيزَنا الأساسيّ قائماً على السِّياسات، لا على الأشخاص، وعلى بناءِ المعرفةِ معَ الإرادَةِ المُرْتَكِزَةِ على الوَعْيِ التَّحْليليِّ العِلميِّ المُرتبطِ على نحوٍ وثيقٍ بالوَعْيِ التَّغْييريّ.