في ذكرى ثورة آذار
واحد وستون عاماً مرّت على قيام ثورة الثامن من آذار التي قادها البعثيون والوحدويون في سورية، وكان نواتها ضباط القوات المسلحة العربية السورية، والثورة مضموناً ومحتوى هي فعل مركّب عميق وشامل ينقل المجتمع من حالة إلى أخرى أداتها الجماهير الواسعة الساعية لتحقيق أهداف تصبّ في مصالح الشعب والأمة، وهي نتاج حراك داخلي نظيف مرجعيته وطنية خالصة. وواضح أن الثورة تدفع باتجاه حياة أفضل للمجتمع، ولعل ما يمنحها شرعيتها ومشروعيتها هو جماهيريتها وأهدافها وما يتحقق منها على الأرض من إنجازات حقيقية تشكّل تحوّلاً عميقاً في المجتمع على الصعيدين المادي والبشري، وهي كما أشرنا عمل وطني خالص فكرة وأداة ونهجاً وهوية، وإذا أسقطنا هذا التعريف على ما شهدته سورية منذ صبيحة الثامن من آذار عام ١٩٦٣ وما أعقبها من إنجازات غيّرت وجه سورية السياسي والاقتصادي والاجتماعي، نجد أن فعل الثورة وتوصيفها مطابق لذلك في صيرورتها وسيرورتها التاريخية، ناهيك عن أن ثورة آذار كانت رداً على الانفصال الذي مثل اعتداء على شرعية دولة الوحدة أي الجمهورية العربية المتحدة لجهة أنها تشكّلت وقامت ووُلدت بإرادة شعبية، حيث استُفتي على قيامها مواطنو سورية ومصر وحصلت على ما يزيد على تسعين بالمائة من الأصوات، ناهيك عن توفر الإرادة السياسية لحكومة كل من البلدين العربيين.
إن إحياء ذكرى الثورة يجب ألا يقف عند حدود ما حققته من إنجازات وتنشيط الذاكرة الوطنية باستحضار مسارها التاريخي بخطوطه ومنعرجاته وتضاريسه فقط، وإنما بطرح السؤال المحوري هل الثورة كفعل وإنجاز وهوية مستمرة ومحافظة على هويتها وجمهورها وقادرة على الاستجابة لكل التحدّيات التي تطرحها مسيرة حياة المجتمع واستحقاقات الأجيال المتعاقبة والتحولات الحاصلة في المجتمع والبيئة الدولية على وجه العموم، وما يرتبه ذلك ويستدعيه من حاجة للنقد بهدف الإصلاح في المقاربات والصيغ والآليات والتحالفات وغيرها من أدوات قيادة المجتمع والسلطة كي تحافظ على زخمها وتجدّدها ولا تتحوّل إلى فعل ماض وحديث ذكريات، وبعبارة أكثر وضوحاً الثورة كشفُ حساب وسؤال مركب ماذا أنجزت وما المطلوب إنجازه راهناً ومستقبلاً؟. إن استغراق الثورة بالماضي والتغنّي بما تحقق دون تقديم كل ما تستوجبه حركة المجتمع من حاجات للتجديد يدخل الثورة في شرنقة وتكلّس وجمود فكري قاتل، ولعل هذا هو ما أدركته قيادة البعث بما توفر لها من قيادات تاريخية استطاعت أن تتعامل مع تحدّيات الواقع بذهنية الانفتاح والقدرة على الحفاظ على روح الثورة والتكيّف الخلاق مع متطلبات الظرف التاريخي. قراءة موضوعية لتاريخ ثورة الثامن من آذار يبرز بشكل واضح الإنجازات التي حققتها على كل الصعد الداخلية والخارجية، ولعل إنجازها الكبير تمثل في استمرارها محافظة على هويتها العروبية والمقاومة والمنتمية، على الرغم من كل التحديات التي واجهتها سواء على الصعيد الداخلي أم الخارجي، ولا سيما ما استهدفها راهناً من إرهاب متحالف مع قوى خارجية ناصبت حركة التحرّر العربي والفكر القومي عموماً عداء غير مسبوق، والى جانب ذلك واجهت الثورة تحدّي بناء مجتمع جديد في ثقافته وانتمائه ومستوى معيشته والارتقاء بمستويات وعيه ونقله من حالة الجهل والأمية والفقر إلى المعرفة والعيش الرغيد والانتماء لقضايا الأمة، ولاسيما قضيتي فلسطين وتحقيق هدف الوحدة العربية الحلم الذي دغدغ مشاعر الجماهير العربية لقرنين من الزمن وما زال.
إن ما أعطى ثورة الثامن من آذار كل هذه القدرة على الاستمرار، هو أنها جاءت من بين صفوف الجماهير وحملت مشروعاً وطنياً وقومياً اكتسب بعداً جماهيرياً وطبقياً واسعاً، ليس على مستوى الساحة السورية وإنما على مستوى الساحة العربية، إضافة إلى تصالحها مع ما أطلقته من أهداف وتحويلها إلى إنجازاتها على كل المستويات، ولاسيما البناء الاجتماعي والاقتصادي وانحيازها الصادق للجماهير الكادحة وتحقيقها طموحاتها وتلبية متطلباتها ودفاعها عن قضاياها وتبنيها لها، والى جانب ذلك امتلكت ثورة آذار قدرة فائقة على الاستجابة للتحديات التي تفرضها مسيرة الحياة والمجتمع والقدرة على تجديد أفكارها وصيغ عملها وآلياته دون تخلٍّ عن مبادئها الأساسية وأيديولوجيتها القومية الاشتراكية والمبادئ الواردة في دستور البعث ومنطلقاته وأدبياته وإرثه النضالي.
والى جانب ذلك استطاعت ثورة آذار أن تعرّف نفسها كهوية سياسية وأيديولوجية وما يستتبعه ذلك من شركاء وحلفاء وأعداء على المستويين الداخلي والخارجي، ما جعلها لا تحتاج إلى الترحل بين النظريات والأفكار أو توسّل إجابات من قوى خارجية لأسئلة يطرحها الداخل وتحدّياته، وهذا لم يمنعها من الانفتاح على الآخر والاستفادة من تجاربه، ولكنها لم تكن على قطيعة مع تراثنا الثرّ دون أن ترى فيه صندوقاً لكل الحلول، فشكّلت قاسماً مشتركاً بين الأصالة والمعاصرة، واتجهت نحو المستقبل بثقة يعزّزها النجاح، ولم تُصبْ ثورة آذار بالجمود والتكلس وجفاف حوضها السياسي، فاشتغلت على المشترك السياسي والوطني منذ قيام الحركة التصحيحية المباركة التي قادها القائد المؤسس حافظ الأسد الذي زاوج بين جاذبية الفكرة وعملانية الممارسة والتجربة والانطلاق من عالم الفكر الرحيب إلى الواقع بتعقيداته وبنيته وتركيبته وإيجاد المعادلات الواقعية بين هذه وتلك، والانطلاق من المصلحة العامة معياراً للنجاح أو الإخفاق على قاعدة أن أفضل الأفكار هي تلك التي تجد مرتسماتها على الواقع ومردودها العملي الذي تلمّسه الجماهير، لا ذلك الذي يلهب مشاعرها ويبقى في دائرة الحلم أو الوهم.
إن اتباع منهج التوفيق بين المبدئية والواقعية هو الذي يفسّر إلى حدّ بعيد حفاظ الثورة على زخمها، إضافةً إلى ما جرت الإشارة إليه، ولاشك أن تجديد الثورة وتجدّد إنجازاتها ومقاربتها للواقع وهندستها للمجتمع عبر متقابلة الأجيال العمرية والفكرية هو الذي يضفي عليها زخماً وقوة دافعة إلى الأمام، وهو ما يسِمُ عقدين ونيفاً من قيادة الرفيق بشار الأسد الأمين العام للحزب الذي اتبع منهج الانفتاح والتجديد الاقتصادي والسياسي والفكري والمجتمعي بهدف إيجاد ذهنية ذات حساسيات وطنية لا حزبية منغلقة وترسيخ فكرة الجيل الفكري لا العمري ليمتلك أهلية الريادة بالإقناع والإنجاز، وليس بالالتزام الأعمى، ما يعني تجديد صورة الحزب وأفكاره، ما يكسبه جمهوراً واسعاً خارج دائرة الحزب التنظيمية والانعتاق من دائرة الحزبية الضيّقة إلى الفضاء الوطني الرحيب، وهنا تكمن ركائز القوة الحقيقية لثورة الثامن من آذار وقوة دفعها الإضافي، فالبعث يملك قاعدتين تنظيمية هي منتسبوه، وطبقية تضمّ الفئات الكادحة من عمال وفلاحين وصغار كسبة وعسكريين ومثقفين ثوريين وغيرهم، ناهيك عن قاعدته القومية الممتدة على المساحة العربية، وحيثما وجد العرب، فثورة البعث هي قطرية أو وطنية الانطلاقة قومية الأهداف والمبادئ والمشروع.
د. خلف المفتاح