“معلقّات” محمد الحرّ.. عندما يكون السّرد خياراً
نجوى صليبه
ليس جديداً إن قلنا إنّ عنوان العرض المسرحي لا يقلّ أهمية عن بقية عناصره، لذا يجب أن يكون جاذباً ومختصراً ومن صلب العرض، ولا نقل شارحاً له، وهذا ما حققه فعلاً الكاتب والمخرج المغربي محمد الحرّ عندما اختار “معلّقات” عنواناً لعرضه الذي قدّمه أمام جمهور مهرجان “دبا الحصن للمسرح الثّنائي” الذي أقيم في السادس عشر من الشّهر الماضي واستمر حتّى العشرين منه، فهو من ناحية يوحي بأنّ موضوع العرض سيكون عن المعلّقات الشعرية، وبأنّ كوميديا سوداء أو “بيضاء” ستقارن بين قصيد اليوم وقصيد الأمس، ومن ناحية أخرى يوحي بأنّ العرض سيلتفّ حول مشكلات المرأة وأزماتها، وأنّ مقارنة ما ستجري أيضاً على اعتبار أنّ هذا النّوع من المسرح قوامه الثنائيات الحوارية والتّمثيلية، لكنّ المفاجأة هي أنّ العرض يجمع بين الفكرتين، وهذا ما يتوضّح بعد مرور دقائق قليلة منه، أي بعد وصول الشّخصية الأولى “آمال ـ هاجر كريكع” الكاتبة والرّوائية الفرنسية إلى المغرب موطنها الأصلي، وهي كلّها أملٌ باستعادة شغفها الكتابة، بعد الظّلم الذي لحقها في فرنسا.
تشتري “آمال” بيتاً قديماً، وترممه، وتطليه باللون الأبيض، وبلمساتها تعيد الحياة إلى مكان كان إلى وقت قريب مهجوراً لا روح فيه ولا حياة، فكرة لا تدوم طويلاً، إذ سرعان ما تنسلّ امرأة من أحد الجدران “نجمة ـ هاجر الحامدي”، ترتدي قناعاً يخفي ملامح وجهها، وتكتسي السّواد من رأسها إلى أخمص قدميها، وتبدأ بسرد حكايتها مع قرض الشّعر، وكيف أنّها اضطرت بسبب المجتمع الذّكوري إلى أنّ تسمح لرجل أحبّته أن يقول شعرها ويصبح صوتها، طبعاً من دون الإشارة إليها، بحجة خوفه عليها، وبحجة أنّ وصول القصيد إلى الجموع هو الهدف الأسمى، لكنّها وعندما تقرر التّوقّف عن هذه المهزلة، وتثور على تقاليد القبيلة، تدفن حيّة في الجدار، في ترميز إلى وأد كلّ عمل تنجزه الأنثى في هكذا بيئة، ودفنه وتعليقه كما المعلّقات الشّعرية، التي لم يعد يتذكّرها سوى عدد قليل من الشّعراء والباحثين، ونقول هذا لكي ندحض قول إنّ المخرج والمؤلّف كرّم الأنثى حين شبهها بشيء نفيس وثمين، لكن نسي أنّ واحدةً من المعلّقات لم تذيّل باسم شاعرة.
أحاديث مهمّة تدور بين السّيدتين اللتين تتبادلان الثّقة، لدرجة أنّ “نجمة” لا تتردّد في نزع قناعها وكما يقال “فرد أوراقها” أمام “آمال”، الحدث الذي لم يتمنَ بعض الحضور حصوله، بل فضّل أن تبقى “نجمة” مقنّعة، كما لو أنّه يكمل مسيرة القمع تلك بقصد أو من دونه، أو لا أدري ربّما أحبّوا الزّي كاملاً كما هو بأناقته وثقله ورمزيته، وهذه تحسب لمصمم الملابس والسّينوغرافيا مصطفى علاوي، إذ منح الشّخصيتين زيّاً مناسباً للزّمنين الماضي والحاضر، طبعاً هذا بالإضافة إلى الجهد الذي بذله عمر زاهد في الإدارة التّقنية وإدارة الخشبة بالتّعاون مع علّاوي، نتحدّث عن إضاءة رافقت الدّيكور البسيط والمميّز في آن معاً، والذي يتكوّن من ستارة بيضاء هي الجدار الذي تختبئ خلفه “نجمة”، وبعض الكتب التي تستخدمها لاحقاً “آمال” ككرسي أحياناً أو كمسند لها في الحين والآخر، ربّما في دلالة من المخرج إلى أنّ علم الأنثى هو ما يسندها في النّهاية.
يستفيد الحر في هذا العرض الذي قدّمته “مسرح أكون” وأدار إنتاجه أكرم الحامدي من تقنيات كثيرة ككتابة بعض القصائد أو الأفكار على شاشة العرض، بالإضافة إلى “المايك” الشّخصي و”المايك” المثبت على خشبة المسرح، و”المايك” المثبت بالسّقف، ما يعيدنا إلى مسرح أيّام زمان، عندما يقف الممثّل خلف “المايك” ويقول قوله ثمّ يسلّمه لممثّل آخر، وهذا ما أوضحه بالقول: “استخدام “المايك” ليس قصوراً في صوت الممثّل، بل هو محاولة للاقتراب من لغة الجمهور العربي الذي لا يقرأ ولا يذهب إلى المسرح بشكلٍ متواصلٍ، لكنّه يتابع ما يُقدّم له من عبر الشّاشات، وعندما يستخدم الممثّل “المايك” يصل صوته بشكل أكثر هدوءاً، وتالياً من الممكن أن يتجاوب معه الجمهور”، مضيفاً: “المايك بسيط وهو قناع آخر يستخدمه الممثّل لكي لا يسقط في المباشرة”.
لكن للأسف هذا الخيار لم يحدّ من قول البعض بمباشرة العرض وسرديته التي لم نعد نراها على خشبة المسرح، والتي لا تحقق الفرجة المنشودة، وهذا ما يعلّق عليه الحرّ بالقول: “بالنّسبة إلى الفرجة والمسرح فهناك نقاش طويل، ويبدو أنّ الجمهور لا يقبل السّرد على المسرح، وما يزال هذا المفهوم غير دارج لدينا.. هذا اختيار شخصي لكي يكون لدينا تواصل مع الآخر ونوصل إليه شيئاً ما.. السّرد هو خيار كما قلت، لقد جرّبنا التّجريبي والعبثي وكلّ شيء، لكن هناك جمهور من حقّه مشاهدة ما يحبّ، والسّرد برأيي هو ديوان العرب، لذلك اعتمدت على الكتابة على الشّاشة”.
ويضيف الحرّ: “المسرح والفنّ بصفةٍ عامة تطوّر مع تطوّر الفكر الإنساني والتّكنولوجي، واستطاع استيعاب كلّ هذا التطور واستثماره إخراجياً، لكن في العالم العربي لا نزال متخلّفين في علاقتنا مع الممثّلين، ونطلب من المخرج أن يستغلّ كلّ هذا التّطوّر ليقدّم نصّاً إخراجياً، ونطلب من الممثّل فقط أن يكون جسداً وصوتاً، ومحاولة الفنّ نسيان ما يجب مشاركته مع الآخرين ليس إلّا مضيعة للوقت، يقول: “أحياناً يستغلّ المخرج كلّ ما لديه لكي يقنع الجمهور أنّه متمكّن من أدواته، والمقصود هنا شيء بسيط ومختلف عن التّعقيد الذي تحدّث به البعض، نحن نحاول بكلّ بساطة الوصول بقليلٍ من المفردات لكي نتواصل مع الآخر، وهذا هو المبتغى”.
ولن نبالغ إن قلنا إنّ الحرّ ذهب إلى الخيار الصّعب وربّما الأكثر صعوبةً في عصر قيل عنه منذ عشرين عاماً عصر السّرعة، وفي عصر ليس من السّهل جذب الجمهور المسرحي وغير المسرحي ونقله من الافتراضية إلى الواقعية، ليس هذا فحسب بل تبديل ملابسه وخروجه من المنزل وذهابه إلى المسرح وشراء التّذكرة ومن ثمّ الانتظار ربع الساعة أو نصفها ليشاهد عرضاً مسرحياً قوامه السّرديّة.