التداولية ومرتكزاتها في حوار الرفيق الأمين العام مع المثقفين والمفكرين
د. رشا العلي/ جامعة البعث
إن تناول العلاقة بين التداولية والحوار الأخير الذي دار بين الرفيق الأمين العام والمثقفين، يحتاج إلى فتح الذاكرة على المعنى المتعدد لهذا المصطلح الذي هو ترجمة للمصطلح الغربي ( pragmatics) ، والذي ترجم إلى عدة مصطلحات منها (التداولية- الذرائعية- التخاطبية).
هذا التعدد يؤكده المعجم العربي فتداول الشيء مرة بعد مرة، والدالة اسم للشيء الذي نتداوله، ومن هذه الصيغة جاءت كلمة (دواليك)، أي مداولة بعد مداولة، وتداولت الأيدي الشيء، أخذته هذه مرة، وهذه مرة، ومن ثم جاءت التداولية مصدراً صناعياً من الفعل (دال)، ومن طبيعة هذه الصيغة التعبير عن المعنى المجرد لمجموع الصفات المأخوذة من مادة (التداول)، أي أنها تضم المعنى السياقي والمرجعية الحياتية والموقفية.
تتعدد الآراء في هذا السياق، لكن ما يعنينا – هنا- هو ربط مفهوم التداولية بالواقع الحياتي والسياسي، ومن المؤكد أن صعود (التداولية) إلى الواقع السياسي بعامة، والسوري بخاصة، كان بوصفه حاجة ملحة لسد الفجوة أو الفجوات في كثير من القضايا التي أثيرت في لقاء السيد الرئيس الأخير مع المثقفين والمفكرين، وهي مبادرة لم نرَ مثيلها في مراحل سابقة، وربما كان الدافع إلى هذا الحوار هو ما أقدم عليه بعض الحزبيين البعثيين من إغلاق الحزب على نظامه الداخلي ومقولاته التي كانت مهمة في مرحلة سياقية تاريخية ما، مما سبب قطعاً لعلاقته بما حوله، ومن حوله، ومن ثم جاءت التداولية ضرورة لكسر هذا الانغلاق، وفتح الحوار لتوصيف الحالة السياسية والحزبية الراهنة، وتحديد الثغرات ومن ثم اقتراح الحلول.
ويبدو أن عملية الفتح التي قامت عليها التداولية ترتبط بفكرة (التوصيل) التي تستوعب الواقع بكل محتوياته السياقية التي تعقد العلاقة بين الشخوص والوقائع، داخل الحزب وخارجه، جاعلة من (الحجاج والحوارية) أداتين من أدواتها.
هذه العلاقة بين الداخل و الخارج (أي الواقع الحياتي)، هي الأداة الجديدة للتحرك داخل الواقع لتفسيره حيناً، وتأويله حيناً، ورسم صورة مستقبلية له حيناً آخر، مما أتاح للتداولية أن تمارس فعاليتها في (الخطاب اللغوي) على وجه العموم، ثم امتدت الممارسة إلى (الخطاب السياسي) بوصفه فعلاً تداولياً بكل مكوناته من أشخاص متحاورين وزمان ومكان وأحداث، وأدوات الربط بينها بالسرد والحوار والحجاج.
وتحرص التداولية على إنجاح عملية الاتصال بالحفاظ على نسق التخاطب بأفراده المتعددين، ويقتضي ذلك احترام تقاليد الحوار والتبادل الكلامي، والذي تجلى في حديث السيد الرئيس بشار الأسد، من حيث وعيه بما يريد الكلام فيه، واحترامه لرأيه الذي يبديه، والرأي الآخر الذي يبادله الكلام، وهذا الاحترام المتبادل بين المتحاورين يكاد يلامس مقولة الإمام الشافعي: ” رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.
لذلك أثار الرفيق الأمين العام النقاش حول كثير من المفاهيم المتداولة والجمل المصكوكة التي نرددها دون استقصاء معناها الحقيقي وجدواها، من مثل (الرجل المناسب في المكان المناسب)، فتساءل سيادته ما هو مفهوم الرجل المناسب، المناسب لي أم لكم أم للجميع؟ ومن الذي يحدد ذلك بدقة؟
في إشارة منه إلى ضرورة إعادة النظر في كثير من القضايا والمفاهيم التي قد تبدو بديهية، بالإضافة إلى ضرورة احترام (الخيار الانتخابي)، مع الاعتراف بوجود مخالفات قد تُرتكب في ممارسته، لكنه يبقى أفضل من (خيار التعيين) بما فيه من تعسّف فردي وتفرّد يناقض مفهوم التشاركية والديمقراطية، فالانتخاب هو الأجدى كحالة سياسية، وهو جزء من تغيير وتطوير مرتقبين.
إن الاحترام المتبادل بين الأطراف المتحاورة في اللقاء الأخير رافقه تنسيق دقيق فيمن يبدأ الكلام، وفيمن يرد، وفيمن يتدخل، وفيمن يؤثر الصمت، وقد ارتفع الحوار إلى مستوى التفاهم والإقناع بتبادل الحجج والأدلة، واحترام منطق العقل وسياق الموقف، وسياق التخاطب كماً وكيفاً، كماً بالتوازي بين المنطوق والمفهوم، وكيفاً باعتماد مبدأ الصدق، أي مطابقة القول للواقع.
هذا يعني أن التداولية تقودنا إلى (القصدية) وعلاقتها بالمتكلم بخلفيته الثقافية والاجتماعية، وكيفية تأثيرها في المتلقي، ومن ثم توجه الحوار بالقول إلى كل الأفراد والجماعات وإلى كل المستويات، وأكثر ما يوصّف هذا التبادل الفكري الراقي قول عبد القاهر الجرجاني: “ومعلومٌ أن الفكر من الإنسان يكون في أن يخبر عن شيء بشيء، وأن يصف شيئاً بشيء، أو أن يضيف شيئاً إلى شيء، أو أن يُشرك شيئاً في حكم شيء”.
بقي أن نشير إلى أن ما وضعه منظرو التداولية من شروط ومواصفات عن ضرورة الصدق في القول، وتوازي اللفظ والمعنى، وأهمية الحجة المنطقية، وضرورة احترام قواعد التخاطب، ومقبولية القول للفهم، هو ما تحقق في هذا اللقاء التاريخي المهم لسيادته مع المثقفين.