“أنسنة المكان”.. نكز للماضي بكل أبعاده
أمينة عباس
فجَّرت رسالةٌ وصلت للدكتور عبد الله الشاهر من صديق له من المغرب يطلب منه فيها أن يكتب عن مدى تأثير المكان في حياته سيلاً جارفاً لديه من الذكريات ضمَّها في كتابه “أنسنة المكان” الصادر حديثاً عن “دار بعل”، على الرغم من أنه لم يخطر بباله في يوم من الأيام أن يكتب عن المكان، لكن هذه الرسالة حرّكت ما هو ساكن في أعماقه، وكأنها أيقظت فيه حسّ ذاك الزمن الذي ذهب ولم يعد.
ويبيَّن الشاهر في تصريحه لـ”البعث” أن الكتاب هو نكز للماضي بكل أبعاده، فالرسالة التي وصلته من صديقه جعلت شريطاً من الذكريات يمرّ أمامه، وحين كتب، كتب من اللاوعي وبعفوية، وترك نفسه لما تقول، فسيطرت الذاكرة بشكل كبير من دون أن يتدخل العقل، فحضر الماضي بكل سلبيّاته وإيجابيّاته وقد كان جمال روح ووهج حياة، وفيه من البراءة أكثر ما فيه من التشويق والضغوط النفسيّة التي نعانيها اليوم، موضّحاً أنه لم يخطر بباله منذ أن يمّم وجهه نحو الكتابة أن يكتب عن المكان ويقف على مفرداته وذاكرته، حيث كان يتذكر الأمكنة ولا يذكرها، يتجول في ذكراها ولا يوثقها، يتصورها ولا يصورها، ولم يدُر بخلده أنه سيقف ذات يوم في مواجهة المكان وذكرياته، مضيفاً أن المكان شكّله وكوَّن طفولته وصباه وكان يمرّ على مرابعه ويستهويه ذكره، ويؤلمه غيابه، لكنه لم يشعر برغبة جامحة تدفعه إلى أن يتفحصه إلى أن جاءه طلب صديقه من المغرب، فأيقظ ما كان نائماً في داخله ونكز حساسية الروح عنده لأن بينه وبين المكان علاقة قد لا يدركها بدقة لكنه يعيشها ويقرأ عباراتها دون أبجدية، وهي علاقة لا تحتمل الترميز، فالمكان عنده ليس جغرافيا، إنه المعرفة التي تحيله إلى الانتماء الذي يشيع في ذاته الحب والحماية، مؤكداً أن الأماكن كائنات حية لها أرواح وتصورات وأحلام، وأن بينه وبين مدينته عشق مزروع في كيانه، منه تولد قصص وحكايات: “أنا مطبوع على حجارتها.. مرسوم على جدران شوارعها.. أنا موّال فراتي على شواطئ فراتها.. ممتد في عمق باديتها.. الميادين مدينتي الحالمة التي تتكئ على كتف الفرات الأيمن وتفرد جسدها على أطراف البادية الشامية”.
ويشير الشاهر إلى أنه جال في كتابه على كل الأمكنة التي رافقت طفولته وشهدت مراهقته وأثْرت شبابه وحمَت رجولته من الزلل وزيّنت كهولته بالحكمة والاتزان، وتوقف في نهاية الكتاب عند الحرب والأحداث القاسية التي غيرت من طبيعة هذه الأمكنة وجعلت منها مجرد ذكريات انمحت، مؤكداً العلاقة الوثيقة بين الكاتب والمكان، حيث لا يمكنه التخلي عنه، حتى إذا لم يظهر بشكله المادي والروحي فهو يظهر في اللاوعي، وما نتاج الأديب برأيه إلا انعكاس للمكان الذي شكّله وطوّر حياته وأنتج منه تلك الأفكار التي قد يصل بها إلى الآخر ليكون المكان السند الذي ارتكز عليه ليصل إلى ما وصل إليه اليوم.
دور المكان في تكوين الإنسان
وكان فرع دمشق لاتّحاد الكتّاب العرب احتفى، مؤخراً، بصدور كتاب “أنسنة المكان” من خلال ندوة عقدها بإدارة الكاتب أيمن الحسن ومشاركة الإعلامي ديب علي حسن والناقد أحمد هلال، وأشار الدكتور إبراهيم زعرور رئيس فرع دمشق لاتّحاد الكتّاب العرب في تقديمه للندوة إلى أهمية الكتاب وما يؤكد عليه من دور المكان في تكوين الإنسان في كل مراحل حياته، وأنه من الكتب القليلة التي تناولت هذا الموضوع.
دفقة شعورية
وأشار الإعلامي ديب علي حسن في تصريحه لـ”البعث” إلى أن أكثر ما لفت انتباهه في هذا الكتاب هو محاولة اغتيال الذاكرة من قبل الأعمال الإرهابيّة التي جرَت في المنطقة الشرقيّة وتدمير الآثار وحرق المكتبات، وغير ذلك، ومن ثم الحنين إلى الطفولة والأماكن، كذلك العنوان الذي يدل على أنه لا مكان من دون إنسان، ولا إنسان من دون مكان، وهذا يعيدنا برأيه إلى الشّعر الجاهلي والوقوف على الأطلال، حيث لم يكن الشاعر في الشعر الجاهلي يقف على الأطلال بكاءً على الأطلال وإنما على الإنسان الذي كان فيه، مشيراً إلى أن الكتاب هو دفقة شعوريّة جميلة مهمة جداً تؤرّخ لذاكرة وجدانيّة وليس لمكان محدّد جغرافيّاً، أراد فيه الكاتب أن يكون متّسعاً باتّساع سورية، منوهاً بأن الكتاب ضمَّ نصاً وجدانياً يستعصي على التصنيف، فهو ليس شعراً وليس قصة وإنما هو بوح، أما التقييم الفني فلم يتوقف عنده حسن وقد قرأه قراءة جماليّة تذوقيّة.
المعادل الوجداني واللغوي للمكان
ورأى الناقد أحمد هلال في مشاركته أن عنوان الكتاب يأخذ القارئ إلى ذات فاعلة في التاريخ، تستنطق المكان، لكنه ليس المكان الحجارة، بل ما استبقى من ظلاله المضيئة في الذاكرة والوجدان والوعي والثقافة، وفيه لا يقف القارئ عند أدب الرسائل أو المراسلات بالمعنى الحرفي للكلمة، على أهميّة ذلك في الثقافة والإبداع، بقدر ما يقف على نص كثيف يكتبه الشاهر ليعود إلى ذاكرة المكان عبر مرايا الطفولة ومحاكاة التفاصيل، وكل ذلك سيجعل منه باحثاً عن المعادل الوجداني واللغوي للمكان من دون التخفيف من سيميائية الأهواء ومركزها العواطف والانفعالات والأحاسيس والرؤى بوساطة دينامية الوجدان وانكشافاته المتواترة بإيقاعاتها الثقافية بزخم فلسفي باذخ: “هل المكان كائن حي فينا.. أم أننا نمنح المكان الحياة”.
إحياء لها
وأوضح الكاتب أيمن الحسن أن حضور المكان يفعل فعله في القارئ، بحيث يجعله يحسّ بواقعية الحدث الذي يحصل وحضوره في عمل أدبي هو إحياء لها من أجل أن يعود الناس بذاكرتهم لهذا المكان، مع تأكيده أن التعامل مع المكان فيه خطورة كبيرة وقد لا يقدم للحدث أي إضافة، خاصة عندما يتعامل الكاتب معه بشكل جمالي وكأنه زخرفة أو زيادة في الوصف، ولا يكون حضور المكان برأيه فاعلاً في العمل الأدبي إلا بمقدار ارتباطه بالشخصيات وطبيعة الأحداث، منوهاً بأن حضور المكان في كتابات الأدباء، مؤخراً، له علاقة بما حدث في سورية وما طرأ على الأمكنة من تدمير وتخريب ونزوح عنها نتيجة ذلك، فأصبح هناك أهميّة لحضور المكان كي نقول بأننا ننتمي لتلك الأمكنة التي كانت جميلة ولها حضور في داخلنا.
البطل الأساس
وبيَّن الكاتب محمد الحفري في تصريحه لـ”البعث” وهو الذي اتكأ في معظم رواياته على المكان أن المكان في رواياته كان عنصراً أساسياً وضرورياً والبطل الأساس فيها وأن كل الأمكنة التي تحدث عنها في رواياته كان لصيقاً بها ويعرفها جيداً، ولم يخفِ أن الأمكنة هي التي تحرضه على خلق أحداث تدور فيها حتى لو كانت أحداثاً وشخصيات افتراضية، مؤكداً أن المكان يصبح غريباً عن الأحداث حين يأتي الكاتب بأحداثه وشخصياته ويقوم بحشرها فيه من دون مبرر ومن دون أن تكون ملتصقة التصاقاً وثيقاً به، حينها يصبح الحدث والشخصيات غريبة عنه لأن استحضار أي شخصية من الشخصيات وزرعها في مكان من دون أن تعرف مفرداته وطبيعته كمن يزرع شجرة في غير تربتها.