الدراما بين المنصات الرقمية والتلفزيون
جمان بركات
شكّلت الدراما ظاهرة مهمّة على صعيد صياغة الرأي العام وعكس صورة أنماط العيش الاجتماعي والإنسان العربي، لكن مع تعدّد الفضائيات العربية وتحكم الأقمار الصناعية بالمُنتج الدرامي تنبّه القائمون على الدراما إلى مسألة الميديا الجديدة وقنوات اليوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث ظهرت المنصات الرقمية منافساً قوياً للمحطات الفضائية في عرض الأعمال الدرامية التي تخضع فيها لشروطٍ توافقت مع عصرنا ومزاج المشاهد اليوم، خاصة وأن الجيل الجديد أصبح أثير الشاشات، فوجدت دراما “اليوتيوب” التي حققت نجاحها بحكم أهمية الحامل الذي تُعرض عليه، ويفرض طبيعته على أسلوب الإخراج وجودة الصورة والأداء التمثيلي عالي المستوى وعدد حلقات قليل من ناحية النص بعد أن ملَّ المشاهد من الأعمال الدرامية الطويلة، إضافة إلى أنه يختار الوقت المناسب للمشاهدة التي لا تتخللها إعلانات باتت تشكل إزعاجاً حقيقياً له، وخاصة في شهر رمضان، فـ”الموبايل” أصبح يختصر العالم كله على شاشته، مما يعني الوصول الأسرع إلى المتلقي، وبالتالي تجويد وسائل إيصال الرسائل، وقد لجأ بعض صنّاع الدراما التلفزيونية إلى العرض الإلكتروني كوسيط جديد على موقع “يوتيوب”، هرباً من الصعوبات التي تواجه الإنتاج الدرامي في الفضائيات الأخرى، ويحرّر العمل من القيود الرقابية، لتكون الميديا الجديدة أحد أبرز الحلول في الوصول إلى شرائح كبيرة مختلفة من الجمهور، فما يميّز الأعمال التي تبثّ عبر المنصات أنها أكثر جرأة في الطرح على صعيد الأفكار واختيار الموضوعات بشكل عام، وقد دفعت المنصات بالدراما خطوة إلى الأمام من أجل مستوى الأعمال ومضمونها، وهذا أمر إيجابي لأن نجاح دراما المنصات أحدث تنافساً مع دراما التلفزيون وكله يصبّ في مصلحة المشاهد، لكن بالمقابل هذه المنصات تكرس العزلة الأسرية وتلغي دور التلفزيون، على الرغم من أنها تعرض أعمالاً مشوّقة وترفيهية، ولكن ليس لها رسالة اجتماعية، وهناك من القائمين على صناعة الدراما يرى أن المنصات الرقمية لم تستطع سحب البساط من تحت أقدام التلفزيون، إذ لكل نافذة إعلامية حضورها وجمهورها العريض، حيث نجحت المنصات في جذب المشاهدين من فئة الشباب ومن المشاهدين الذين يتمتعون بثقافة ورغبة في متابعة الأعمال الفنية الأكثر عمقاً، فالفائدة التي تقدمها المنصات تكمن في كونها أوجدت نوعاً من التكامل بين عناصر العمل، لأنها تركز على جودة العمل بحدّ ذاته، بحيث لا يكون هناك خلل في أي عنصر من عناصرها، سواء أكان الممثل أو مستوى الإنتاج والإخراج، فهي توّظف كل العناصر من أجل إنجاح العمل ورفع قيمته لكي يكون مناسباً وقادراً على لفت أنظار المشاهد.
والسؤال الذي يحضر في هذا السياق: هل تنجح دراما المنصات التي تعمل وفق شروط معينة تراعي كلّ عناصر العمل في تغيير المعادلة ونقل العدوى إلى الدراما التلفزيونية، مما يصبّ أولاً وأخيراً في مصلحة الدراما العربية؟ ولا شكّ أن وجود منافذ جديدة للتوزيع والإنتاج، يصبّ في مصلحة المنتج نفسه، لأن التنافس يخلق إبداعاً أكبر.
إن جمهور المنصات يجد في الدراما التي تقدّم عبرها، أعمالاً محبوكة، نصاً وإخراجاً وأداء وتقنيات، لذا لا يمكن أن تقدم له مادة درامية تلفزيونية بسيطة وسخيفة ودون المستوى مقارنة بأعمال المنصات التي رفعت الذوق العام فنياً، علماً أنه يمكن أن يعاد عرضها على الشاشات، وهي كرست نمطاً جديداً غيَّر في مفهوم الكتابة والإخراج والتمثيل، فمع المنصات دخلنا عصراً جديداً، ولا شك أنه سينعكس إيجاباً على الدراما بشكل عام، والمطلب المشجع لصناع الدراما بالخروج من أسر الدراما الرمضانية يحفز الشباب من كتّاب ومخرجين على العمل في سياق ما يمكن تسميته “الدراما البديلة”، وفي انتظار إثبات التحوّل في سياق الإنتاج نجاحه من عدمه، تحضر الدراما في الشارع العربي كمحرك أساسي للتفاعل، يقوده المموّلون لأغراض سياسية وتجارية تبتعد في كثير من المرات عن مشكلات الشارع العربي وأزماته اللامتناهية وتنميط الحياة كما تراها “نتفليكس”، أو كما تعمل “شاهد” على تصويرها، ويبدو أن هذه التجربة بدأت تؤسّس لتيار درامي إلكتروني عربي جديد، بقالب مبتكر يعتمد أنواعاً حديثة من الدراما المبنية على التشويق والخيال العلمي والغموض، والشكل السينمائي من حيث الدقة والاحتراف في التصوير والإخراج والكتابة والتمثيل، ومن حيث عدد الحلقات التي بدأت تتقلص لتصل إلى 8 أو 10 حلقات بحدّ أقصى، وقليلاً ما نرى مسلسلاً أنتج لمنصة بثّ إلكترونية يصل إلى 30 حلقة كما كانت الأعمال الكلاسيكية المحشوة بالثرثرة وساعات لا طائل لها وغير المفيدة درامياً، فمع اهتمام المنصات بالمسلسلات العربية، باتت شركات الإنتاج نفسها التي تنتج أعمالاً للتلفزيونات التقليدية، تعمل بمواصفات مختلفة كلياً بدءاً من “الكاستينغ”، وإخضاع كل ممثل للاختبار أمام الكاميرا مهما سطعت نجوميته، وصولاً إلى خوض تجارب القصص الغامضة والمليئة بالمغامرة والتشويق، والتعاقد مع كتّاب شباب في ورشات جماعية.
وتواجه شركات الإنتاج الفنية العربية كما شركات الإنتاج العالمية، تحديات عدّة اليوم بعد احتلال المنصات الساحة الدرامية، وفي حال قرّرت اللحاق بسباق البثّ الإلكتروني لتتوجّه إلى جمهور غير محكوم بعوامل الجغرافيا واللغة والقوميات، فعليها مداراة معايير المنصات الصارمة والأكثر مرونة في الوقت نفسه، فهل تعيد منصات البثّ تشكيل خريطة الدراما العربية خصوصاً على صعيد عدد الحلقات والنوع الدرامي والنجوم؟ والعمل الدرامي اليوم لم يعد يقاس بجماهيرية بطله ونجوميته كما كان في السابق، النوع الدرامي اليوم مشغول بالمستوى الفني العالي الذي تفرضه المنصات، خصوصاً على صعيد نوعية الصورة والصوت التي يجب أن تكون سينمائية بامتياز، والأموال التي كانت تُنفق أمام الكاميرا ذهبت إلى ما ورائها، أي للموسيقا والمكساج والمونتاج والألوان والتصوير والإخراج وما إلى ذلك.