فانوس الأعماق
غالية خوجة
تزدحم الأفكار بصمت متحرك بينما تزدحم الأسواق بأصوات الباعة الصاخبة في رمضان، خصوصاً، في فترة ما قبل الإفطار، وتزدحم الضمائر بمحبة الصحوة من الغفلة، ولربما هذا ما ارتكز عليه إرثنا الرمضاني من رموز منها الفانوس، والمسحّر، والكرم.
فما الرابط بين هذه الرموز؟..
للفانوس شعاعه الذي يبدّد العتمة، وهذا الشعاع ضوء معنوي للروح والرفعة والارتقاء بالذات والعقل والسلوك، وهو إشارة إلى شفافية الإنسان وتعامله مع ذاته والآخرين، فكلما ازدادت طاقتُه الجوانية إيجابيةً ازداد عطاؤه المعنوي والمادي، وانتشرت أفعاله اللامعة مثل انتشار الشعاع في العتمة، وهذا يذكّرنا بأقوال العديد من الشعراء والعارفين والمتصوفة والفلاسفة، منهم جلال الدين الرومي القائل: “النور الذي في العين ليس إلاّ أثراً من نور القلب، وأمّا النور الذي في القلب فهو من نور الله”.
ومن إضاءة أخرى، اعتاد مشرقنا على وجود شخصية “المسحّر” التراثية في ليالي رمضان، وزيّها الفلكلوري المكتمل مع الطبلة الصغيرة، والكلمات الرقيقة، ومعانيها المستمرة ليس خلال الشهر الفضيل فقط، بل على مدار الحياة: “يا نايم وحّد الدايم”، ولهذه الكلمات دلالات شعاعية عميقة، تصف الإنسان بالنائم، وليس المقصود، فقط، دلالتها المباشرة الأولى “النوم”، بل تتضمن الغفلة أيضاً عن جوهر النور، ويقظة الحضور، وعمق الحياة من أجل العبور إلى الموت كحياة أخرى مشعة، وبذلك تكون اليقظة هي الأهم يقظة العقل والقلب والفعل والعمل، فتشتبك بإيحاءات شفافة مع إشعاعات الفانوس وتنتشر لتصل إلى كلمة “الدائم” أي الباقي الذي لا يفنى ولا يموت.
ولن تشتبك هذه الشعاعات الصغيرة مع أشعتها الكبيرة إلاّ من خلال المحبة التي نصعد درجاتها بالتدريج لنكون فانوسها المتراحم، الذي يتبادل مفاهيمه بين الكلمة الطيبة والعمل المشرق في بناء الذات والمجتمع والوطن والعالم الإنساني، أي بناء الحياة لتكون حياة، وهذا ما لخّصه المهاتما غاندي بقوله: “أينما يتواجد الحب تتواجد الحياة”.
ومن دلائل هذه المحبة كرم العطاء الذي يذكّرنا بأسلافنا وهم يتبادلون أطباق الطعام، ويهبّون لعون المتعفّفين من دون أن يشعروهم، فمنهم من يضع أكياس المؤونة أمام بيت الفقير المتعفف، ومنهم من يقدم الموائد المفتوحة، ومنهم يوزع ما عليه من التزامات مادية على الناس المتعففة، وأهم ما بهذا العطاء أنه متعفف أيضاً، سريّ، لكي لا يترك أثراً جارحاً في مشاعر الآخرين، وهذا ما لخّصه أبو إسحق الشيرازي بسؤاله وإجابته: “أتريد أن تحظى بشيء من مُلك سليمان؟ لا تؤذِ مشاعرَ نملة”.
ومن أجمل ألطاف هذه الأشعة وطاقاتها أن تتناغم شخصية الإنسان معاً، أي الجوهر كروح مفكّرة واعية وقلبٍ مبصر وجسد عاكسٍ لما في هذا الباطن، فيتكامل الجوهر والمظهر، وهذا ما يشتهر به إنساننا العربي عموماً، والسوري خصوصاً، والمعروف باهتمامه بالآخرين، وهذا ما يظهر بوضوح في الأزمات والكوارث، إلاّ من بعض الجشعين الذين يفضّلون أن يظلوا في دلالات كلمة “النايم”، فينطفئ فانوسهم، وتعتم أعماقهم، ويرحلون لملاقاة الله الحي الباقي ذي الجلال والإكرام.
أنار الله قلوبنا وعظامنا وقبورنا، وجعلنا أشعة تنتشر بلا حدود، ولا نهايات، ليظل أثرها النافع مغروساً في هذه الأرض التي اعتادت على نصاعة النور ويقظته في فوانيس النفوس.