ثقافةصحيفة البعث

من تاريخ الموسيقا في حلب

فيصل خرتش

كانت الموسيقا والغناء جزءاً من المنهاج التربوي والديني في المعابد القديمة، فالغناء المعبدي كان يعدّ البوابة الفنية لعبور القلوب إلى الحضرة الإلهية، وهذا ما فعله الشاعر السرياني مار أفرام في القرن الرابع الميلادي، حين أخذ ينظم قدوداً دينية على ألحان شعبية كانت منتشرة بين العامة.

إنَ رسائل الحب المتبادلة بين زمري ليم من أمراء ماري، والأميرة شابتو من دولة يمحاض في الألف الثاني قبل الميلاد، كانت أعذب من الموسيقا، وقد ساعده ياريم ليم على استعادة ملك أبيه، وزوّجه من ابنته، وأمر أن يحشد لهذا العرس الملكي أشهر المطربين والمطربات، على رأسهم المغنية كاراناتوم، ذات الصوت الذهبي، وكان عرس الأميرة كيشدوت أخت ملك إيبلا على أمير من مدينة كيش جنوب العراق، حتى صار زواجها تاريخاً، حيث يقال: “حدث هذا عام زواج كيشدوت”.

وإذا انتقلنا إلى العصر الأموي، نقرأ ما كتبه ابن قتيبة: بلغني أنَ خالد بن يزيد كان نازلاً على الهيثم التنوخي فبعث إلى ضيف بدوي من قبيلة عذرة، فقال: “كنت في حلب فرأيت أناساً يقبلون ويدبرون عليهم ثياب بألوان الزهر، ثمَ جاء رجل فأدخلني داراً واسعة، فيها فرش ممهدة وعليها شاب شعره على كتفيه وحوله سماطان والناس جلوس بين يديه فظننته الأمير، وقلت: السلام على الأمير، فجذبني رجل من يدي، قائلاً: “هذا ليس الأمير، إنه العريس”.

ثمَ دخل رجال يحملون خرقاً وأشياء أخرى فظننتها ثياباً، وفجأة بسط القوم أيديهم وراحوا يمزقونها ويأكلونها، فقال صاحبي: “إنه الخبز”.. ثمَ أحضروا لنا طعاماً كثيراً، من حلو وحامض وحار وبارد، وفجأة هجم أربعة شياطين استخرجوا من جعبهم دواباً لا أعرفها راحت تصدر أصواتاً مطربة، وقام أحدم يلبط الأرض ويثب، فقال صاحبي: “هذه آلات موسيقية وهذا يرقص على النغم”، ثمَ أقبل شاب واستخرج خشبة شدّ عليها أوتاراً وعرك أذانها وحرَكها بمجسة فنطقت فإذا هي أحسن قينة، وغنَى عليها فاستخفني الطرب، فسألت ما هذه، إنها غير معروفة عندنا في البادية، فقال صاحبي: “يا أعرابي، هذا هو البربط، آلة موسبقية، وهذا الخيط في الأسفل هو الزير، والذي يليه هو المثنى، والثالث هو المثلث، والرابع اسمه البم”.

قدم شاب عام 1293 هجري من دمشق عرف باسم سعيد الشامي، كان يعزف على العود بمهارة فتهافت عليه أهل الصبابة والفن، وتعلَم على يديه رجل من حلب، اسمه أحمد المغايري، فاق أستاذه في العزف على العود، ثمَ انتشرت هذه الآلة في حلب.

في العصر العباسي حفظ التاريخ لنا اسم علوة الحلبية المطربة الشهيرة التي كان صوتها يوقظ الليل الهاجع في المتنزهات الحلبية، كانت تضمُ مربعاً غنائياً يقصده العامة والأدباء وعلية القوم.

وقانصوه الغوري سلطان المماليك يطلب من واليه على حلب أن يرسل إليه الفنان محمد الآلاتي مع فرقته الموسيقية والغنائية، فأرسله إليه، وفي القاهرة أسمع السلطان ما لم يسمعه من قبل.

مع بداية القرن التاسع عشر برزت أسماء كثيرة منها أبو الوفا الرفاعي، البشنك، أحمد عقيل، صالح الجذبة وآخرون، ولمع من بينهم مصطفى البشنك الذي كان نابغة عصره في الموشحات والقدود، وقد أضاف أحد عشر إيقاعاً جديداً ولحن أكثر من مئتي موشح جديد ما تزال تستعمل إلى اليوم، وقد افتتح في داره معهداً لتعليم الموسيقا والغناء.

أمَا أبو الوفا الرفاعي فكان إذا أنشد:

يا مجيباً دعاء ذي النون   في قرار البحــــــار

استجب دعوة المظلوم     قد دعا في اضطرار

بكى الناس من جمال صوته، وقال عنه الأب فردينالدتوتل: “كان عالماً وشاعراً ومغنياً ومنشداً، له صوت رخيم جهوري يسمع عن بعد، يثير العواطف ويستذرف العبرات”، وعندما كان ينشد كان الناس ينصتون كالمسحورين، ويقول الشيخ الغزي: “كان كثير من ذوي الأصوات الحسنة يغنون وهم يسيرون في الشوارع، وقد يكون أحدهم من أماثل الناس وظرفائهم، أمَا المغني الذي يحترف الفن ويأخذ الأجر على غنائه، فيعرف عند الحلبيين باسم “ابن الفن”، ومن المغنين والموسيقيين الذين نبغوا في حلب أواخر القرن التاسع عشر أجق باش وكان بارعاً في المواليات واللحن الشرقي، وأحمد سالم من رجال القرن 19 ــ 20 وكان متفرداً بغناء المقاطع الغزلية من أشعار المتنبي، فإذا هو أبو الطيب نفسه، يجلس أمام سيف الدولة، وأحمد عقيل من رجال القرنين 19 ــ 20 موسيقي بارع وأديب، يورد من الأشعار والأغاني في كلَ مقام ما هو خليق به، وعنه أخذ أبو خليل القباني بعض فصول رقص السماح، وشرف الدين الفاروقي وهو مسرحي وموسيقي درس ولحن الأزجال والأغاني الوطنية في المكتب السلطاني بحلب، هذا عدا عمّن اشتهروا في العزف على الآلات الموسيقية، ومنهم اسحق عدس الذي انتقل إلى مصر، وشعيا الكمنجاتي، الذي كان ينام وأصابعه تلعب بأوتارها فلا يخطئ الهدف، ونقولاي حجار، وكان من أهل استانبول، غضب عليه السلطان فأقصاه إلى حلب، خالط الحلبيين وتعلم العربية، وصار يعزف في سهراتهم الغنائية بلا أجر، وكان يعزف على الطريقة الأوروبية والعربية، وله قدرة على محاكاة الحيوانات، توفي في حلب أوائل القرن العشرين، واشتهر على الناي عبدو الزرزور.

ومن المطربات الحلبيات فيروز الحلبية، وهي التي أنشدت:

شاهدت الشمس وقد بزغت     فعجبت لمنظرها الحسـن

وسألت البدر لمن يعشـــــق     فشكى وبكى حب الوطن

كذلك المطربة شادارافيان صاحبة الصوت الأوبرالي، والمطربة كهرمان التي عشقت حلب، والتي أنشدت في تكريم الجندي العائد من فلسطين:

أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو القلم

والمطربة خيرية السقا التي كانت النجمة الغنائية الأولى في حلب، ومن هؤلاء المطربة بهية البيبة، وعائشة المسلمينية التي توفَيت في أوائل القرن العشرين، هؤلاء هم المطربون الذين اشتهروا في حلب، منذ أقدم الأزمنة إلى منصف القرن العشرين.