أمهات مبدعات.. تضحيات لا سقف لها
أمينة عباس
يحلو الكلام عن الأمهات، فكيف إذا كنّ مبدعات وعشن الأمومة بكل تفاصيلها، وكانت الأمومة دافعاً لهنّ للإبداع، فكنّ القدوة لأبنائهنّ الفخورين بهن، لتبدو الأمهات من خلال كلامهن صنفاً متفانياً، يملكن حباً لأولادهن، ويقدمن تضحيات لا سقف لها، ويتحملن أعباء تنوء بها الجبال، لتكون الأمومة ضرباً من ضروب الفن كالفنان الذي يصنع من لوحة بيضاء قطعةً فنيةً خالدة.
الأمومة مسؤوليّة
في هذا اليوم، تشير الأديبة الدكتورة ناديا خوست إلى المرأة الفلسطينية التي تحتضن طفلها تحت القصف، مشاركة في صراع كبير بالدفء الذي تهبه لطفل يرتجف من البرد وبالأمان الذي تهبه للخائف من القصف وهي حارسة بقاء الشعب الفلسطيني من الإبادة طيلة العقود الماضية، مورّثة أجياله التاريخ والجغرافيا والشجاعة، موضحة أن الأمومة مسؤوليّة وبداية مسار، تراقب فيه الأم نمو إنسان بمزاج وطباع يحدّد لها وقت النوم والصحو، ويطلب أن تحبه ويرفض أن تنشغل عنه، يذكّرها من دون كلام أن واجبها أن تساعده ليكون جميلاً ذكيّاً ومتعلّماً، تستطلع موهبته وتكتشف متى يستطيع الوقوف وتعلّم المشي، تتنقّل معه لتريه الجبل والسهل وتراقب دهشته وهو يرى البحر والزهرة، تتحمّل أن تنحني لتراقب نملةً معه، وتعقل خطوتها الواسعة لتواكب خطوته الصغيرة، مبينة أن الأمومة التي تكشف للأم عواطف جديدة ودهشة مراقبة إنسانٍ حي تفرض عليها الدقة في التنظيم، وتضنيها بالشوق إلى النوم وتحرقها برغبة المشي الحر، وتتعبها من الأسر لإيقاع آخر، فتأكل وقت الكتابة، ومع ذلك كان يجب عليها أن تنشغل بالعالم الواسع لكي تكون لائقة لتجربة جديدة، معترفة بأنها تبيّنت أن شعر حافظ ابراهيم الذي تعلّمته في فتوّتها: “الأم مدرسة إذا أعددتها أعددتَ شعباً طيب الأعراق” أقل بلاغةً مما كسبته من الصور التي رسمتها أمها التي تجوّلت في بلاد الشام، وككاتبة تؤكد أن الأمومة قرّبتها من فهم القدرة على صياغة شخصيات نسائية، ودون ما عاشته كأم لما كانت قادرة على إنجاز ما كتبته وهي التي كانت محظوظة بعلاقات أسرية مؤسسة على احترام الحق في التمايز، وبظروف يسّرت لها أن تطلّ على الشرق والغرب، وقد استطاعت أن تربّي ابنةً مثقفة ذات اختصاص علمي ـ تقويم أسنان ـ وابنةً متخصصة العزف على الكمان ذات أنامل ذهبيّة نظّمت أربعة معارض فنيّة فرديّة في النحت والرسم.
الأمومة بأعظم شكل
وتشير الكاتبة مريم خير بيك وهي أم لابنة إلى أنها حاولت أن تحمل إليها من ماضي الأمومة الكثير، وأن تعطيها الكثير، لكن الأمومة التي تعتز بها كثيراً وستبقى هي مرافقتها للطفولة على مدى أربعين عاماً ككاتبة حاولت كثيراً أن تقدم الكثير لهذه الطفولة من مفهوم الأمومة، فعندما كانت تكتب أي نص لم تكن تفكر إلا كيف سيتلقاه هذا الطفل وكيف ستربي هذا الطفل كما ربت ابنتها، لذلك بذلت جهداً كبيراً في مجال الكتابة للطفل كما بذلته كأم، مبينة أن الأم ليست تلك الأم الولودة فقط، فقد تمارس المرأة الأمومة بأعظم شكل حين تربي الأجيال.
أم الجميع
ووجه الشاعر نزار بني المرجة في هذا اليوم التحية إلى كل الأمهات الحاضرات والغائبات وأمهات الشهداء، مبيناً أن القدر اختار أن ترحل والدته في الخامس من تشرين الأول العام الماضي وليس في السادس منه لكي تبقى ذكرى السادس من تشرين عطرة في نفسه وذهنه، ولأن القدر كان جميلاً ورفيق دربها دائماً كان لا بد له أن يزيّن شاهدة قبرها بنخلات وزهور استلهمها من لوحة جداريّة رسمتها بأناملها وريشتها وألوانها، ولأنّها كانت بمثابة أم ثانية لكل من عرفها كتب على شاهدة ضريحها: “أم الجميع، وما رحلتِ وأنتِ رمز للحياة، جنّات عدن بانتظارك يا جميع الأمّهات”، مشيراً إلى أن أمه كانت مثل أمهات الوطن القديسات الفاضلات، معطاءة بلا حدود، وكانت تشعر بآلام الآخرين وتشاطرهم أحاسيسهم كما لو أنها هم، وكانت تتمتع بحسّ وطني عالٍ منذ بدايات وعيها، وقد تغلّبت بكلّ إرادة وتصميم على الظروف الاجتماعيّة التي كانت تبعد المرأة وتقصيها عن متابعة تحصيلها العلميّ، فدرستْ ونالتْ الشهادات مع أبنائها لتعيد كل ما فاتها من تحصيل دراسي، وقد تمكّنت من ذلك بنجاح لافت، فكانت ضمن الكوكبة الأولى من الرفيقات الحزبيّات على امتداد خارطة الوطن اللواتي قمن بالمبادرة بتأسيس الاتّحاد العام النسائي في سورية في السنوات التي تلتْ ثورة الثامن من آذار، وصولاً إلى الحركة التصحيحيّة المجيدة، فكانت من زميلاتها ورفيقات دربها عادلة بيهم الجزائري، وسعاد العبد الله، وبشرى كنفاني، وفريال المهايني، وقمر كيلاني، وكثيرات من نساء سورية الرائدات المناضلات الأيقونات، ولم يكن مستغرباً برأيه أن تختارها القيادة لتكون في رأس قائمة من النساء في عضوية مجلس الشعب في دورته الأولى عام 1974 وكانت أول رفيقة حزبيّة في وزارة الإعلام، لتنتخب بعدها لعضويّة المؤتمر القطري للحزب، كما كانت جديرة بتولّي إدارة مكتبة الأفلام وأرشيف الأخبار السياسيّة المصوّرة في التلفزيون لسنوات طويلة، وقد اختيرت لتمثّل سورية في دورة تخصصية نظّمها اتّحاد الإذاعات والتلفزيونات العربية لتفوز في المرتبة الأولى من الذين يمثلون الدول العربية المشاركة، وكان من الأحداث الجميلة أن طلبتْ رائدة الفضاء السوفييتية فالنتينا تيريشكوفا اللقاء معها بصفتها امرأة سورية نموذجية متميزة تمثّل سيدات المجتمع السوري، حيث قامت بإهدائها قلادة تذكاريّة جميلة، مشيراً إلى أنه لا ينسى إصرارها على الدوام الكامل في الإذاعة والتلفزيون في حرب تشرين المجيدة، وكان يجد نفسه مضطراً لمرافقتها، وهذا ما أتاح له فرصة نادرة ليعيش الكثير من ساعات الحرب العصيبة على جبهة الإعلام، منوهاً بني المرجة إلى أنها وإلى جانب ثقافتها الأدبية والاجتماعية والسياسيّة اللافتة وقبل سنوات كانت تطلب منه أن تقوم بزيارة مبنى الإذاعة والتلفزيون لتلتقي زملاءها وزميلاتها، وكان يشعر بذلك الحب والاحترام الكبير الذي يكنّه الجميع لها.
سيري ولا تتوقفي
ووجّهت الشاعرة دولة العباس أم الفنانة سوزان نجم الدين التحية لعزة الثكلى أم الشهداء والمقاومين الأبطال، مخاطبة الأم في عيدها قائلة: “سيري، سيري ولا تتوقفي، طيري فديتك رفرفي، إن الحياة مواسم خضر فلمّي واقطفي لا تجزعي يا حلوتي لا ترهبي لا ترجفي، أم إذا ما صنفوا أم لكل مثقف، أم لأعظم سيد، أم لأجمل يوسف، أم تهز الكون فامضي للحياة وشرّفي زوج وأخت وصديقة وابنة في الموقف، أنتِ الحياة ونبعها إياك أن تتوقفي وهبي الحياة وجدّدي لحن الحضارة واعزفي فاللحن دونك ضائع وبغير صوتك يختفي”.
الوطن الصغير
واختصرت الفنانة سوزان نجم الدين الحديث عن الأمهات بالحديث عن أمها الشاعرة دولة العباس، فهي الأم الصامدة الطموحة المثقفة والشاعرة التي لم ترها يوماً في حالة يأس تحت أي ظرف من الظروف، مبينةً أنها وعت على الدنيا وقد وجدت أمها شاعرة وأديبة وموسيقيّة وفنانة، مؤكدة أن الأم هي البيئة الأولى لطفلها، وأي نجاح وصفات مهمة يكتسبها تُنسب لهذه البيئة الطفوليّة التي تربّت فيها على حب الوطن والشعر والموسيقا واللغة العربيّة، مشيرة إلى أن أمها أصرّت على أن تنال شهادة الحقوق حتّى بعد زواجها وإنجابها، وكانت شغوفة بالشعر والحب والعطاء، كم كانت المظلة الكبيرة والوطن الصغير.
عودة الخصوبة إلى الطبيعة
ويشير نزار فلوح الذي كتب بحوثاً متنوعة عن الشعر العربي المُغنّى إلى أن الاحتفالات بعيد الأم كانت قديماً ترتبط بفرح عودة الخصب والخصوبة إلى الطبيعة بعد يباسٍ وجفاف، أما الأغنيات والأعمال التي قُدّمت للأم وعنها فكانت كثيرة، وجاءت على ألسنة مغنّين ومغنيات من أكثر من بلد عربي، لكن ما يبقى منها في الذاكرة وفي وجدان المستمع قليل لا يتعدّى أصابع اليد، ولهذا أسباب تتعلّق بالصدق وشروط الإبداع، وربما يتعلّق الأمر بتغيّر بعض الحالات أو التحوّلات الاجتماعيّة التي غيّرت صورة الأم في المجتمع، مبيناً أنه لا يكفي أن يقدّم المغني أغنيةً تتغنّى بعطاء الأم وحنانها من قبيل الواجب كي تكون أغنية تخلد في ذاكرة ووجدان الجمهور، وأنه إذا أراد أن يقسم المدونة الغنائيّة العربيّة حول الأم فيجد أن هناك أعمالاً غنائيّة تغنّت بحب الأم وتمجيد عطائها وتضحياتها، وهذا هو المعنى الغالب على أغنية الأم مثل أغنية “ست الحبايب” ألحان محمد عبد الوهاب غناء فايزة أحمد، وهناك أغنية الطفل الموجهة للأم مثل أغنية “ماما زمانها جاية” للراحل محمد فوزي، وهناك أغنيات الأم لطفلها أو طفلتها تفيض حبّاً وحنوّاً ورقّة كأغنية فيروز “يلا تنام ريما” وأغنية شادية “سيد الحبايب يا ضناي انت”، أمّا الموضوع الرابع والذي يقع ضمن هذه الدائرة ـ برأيه ـ هو أغنيات بوح الابنة أو البنت لأمها بمكنونات القلب، وقد يبدو موضوعاً عاطفياً لكنه يلامس دائرة الأمومة بشكل من الأشكال، فالبنت لا تستطيع أن تبوح إلّا لأمها حين يطرق الحب باب قلبها مثل أغنية فايزة أحمد “يما القمر عالباب” وأغنية صباح “يا أمي دولبني الهوى بدواليبو” وأغنية فيروز “يما الحلو مر وعبر”، وهناك أغنية الحنين إلى الأم والتفجع لفقدها وفراقها مثال ذلك ما جاء في قصيدة الأخطل الصغير “عش أنت” وغنّاها فريد الأطرش وفيها يقول: “ما قلب أمك إن تفارقها ولم تبلغ أشدك، فهوت عليك بصدرها يوم الفراق لتستردك” وأغنية الفنان دريد لحام “يامو”.