أمومة وطن حضارية بألوان غنائية
غالية خوجة
الأمهات جذور الأرض وقلب السلام، لأرواحهنّ رائحة الورد وطمأنينة الأنام، ومهما مرت على الإنسان من فصول وأيام، تراه يحنّ لنبضته الأولى التي كانت في الأرحام، فتزيده شوقاً لأخلص الأحضان، فيمضي أطيافاً، ومهما كبر تجده النغمة العائدة إلى أمه، فيركض طفلاً لحضنها، أدام الله جميع الأمهات، أو طفلاً لقبرها، رحم الله جميع الأمهات، فيستردّ توازناً خلخلته له ضغوطات الحياة.
أمّا هؤلاء الأمهات اللواتي أنجبن الشهداء، فلأحضانهن رائحة الصبر الممسّك بالسندس، ولحياتهنّ ما ينبت في الذاكرة من ورود معطّرة بالأمل الدائم الذي يجعلهنّ مستمرات في الحياة، معطاءات مثل أولاء الأمهات وهنّ يعملن في المنزل وخارجه فيدرّسن ويعجنّ ويزرعن ويتحمّلن مسؤولية بناء حياتهنّ الأسرية والاجتماعية والوطنية والانتمائية.
الأمهات عالم من اللهفة الملائكية التي كتب عنها الكثيرون وأشهرهم محمود درويش و”مكسيم غوركي”، وأنشد وغنّى لها الفنانون، وأشهر أغنية “ست الحبايب” التي يصدح فيها صوت فايزة أحمد في كل بيت منذ 1959 وهي من كلمات الشاعر المصري حسين السيد، وألحان محمد عبد الوهاب.
ومن إنشادٍ لوني آخر، ستظل الأمّ محوراً رئيساً للوحات التشكيليين على هذه الأرض، ومنهم الفنان محسن خانجي الذي يرتكز على شفافية الأبيض واللازوردي وهي تنعكس على ملامح الأم وكأنها نبضات تدور حول أولادها وتضمهم كما الميم المشدّدة في لفظة الأمّ ودلالاتها، فتنتثر إضاءة الأعماق مع الشال الشفاف وهو يشكّل أجنحة لامرئية.
وتتحرك أعماق الأمّ صوتياً في لوحة الفنان إبراهيم داود وهي تنتشر مثل “الصرخة” مع أهوال الحرب وفجيعة الزلزال، لكنها تنشد في لوحة أخرى للحياة عندما تترك صمتها بين الحقول ليصير أشجار زيتون تنتظر عودة أبنائها، وهو ما تحكيه لوحات الفنانة شكران بلال عن أمّ تحمل المحاصيل بأطباق القش على رأسها، أو تطحن القمح بالحجر الدائري، أو تجهز مؤونة البيت مثل الفليفلة الحمراء.
وتظهر الأمّ في أعمال الفنانة فاطمة إسبر، خصوصاً، أعمالها المرسومة بقلم الرصاص، كحالة غير منفصلة عن حجارة الوطن والأرض ورصاص السلام الذي هو القلم وفنونه الكتابية والتشكيلية، وهذا ما أرادت إيصاله إسبر من خلال اعتمادها على بساطة اللعة البصرية وعمق دلالاتها الممتد بلا حدود.
بينما اهتمّ الفنان ادوارد مونش بملامح الأولاد الملتفين حول أمهم المتوفاة وهي على السرير عاكساً حالة من فقد الأنا مع ضميرها، خصوصاً، مع ملامح الطفلة الصغيرة وصدمتها التعبيرية التي تحيلنا إلى ذكرى منسية لها ولكل إنسان في لوحة الفنان “نورمان روكويل” المتمحورة حول أمّ تضع أطفالها على السرير وهم بمنتهى الراحة والسعادة يصافحون النوم والطمأنينة.
لكن، ماذا عن الأم وبطولتها تجاه الأرض؟
هذا ما تجسّده الأم العربية عموماً، والسورية والفلسطينية خصوصاً، ومن الممكن أن تجتمع مفردات الفنانين العرب حول هذه النقطة ليعبّر كلّ منهم عن الأمّ بنبضاته التي تتوحّد مع قلبها وآلامها وأحلامها وصمودها، ومنها لوحة “خبز ماما” للفنان إبراهيم شليبي المعبّرة عن الفلكلور العربي من لباس مزركش وتنور يستعد لهبه لاستقبال الأرغفة ذات الرائحة الشهية.
وهذه الألهبة تبدو في لوحة الفنان عماد أشتيه ضوءً لفانوس يرمز إلى زوال كلّ احتلال، وهو الضوء الذي تورّثه الأمّ لابنتها التي تغرس النباتات الخضراء على الطاولة في منزلهما الذي تطلّ نافذته على القدس وهلال القمر المشع كما الملامح المتأملة.
ويتخذ الضوء رمزية المفتاح والعودة في أعمال أخرى، منها لوحة الفنان فايز الحسني المتمركزة حول مفتاح الدار بيد الجدة وهي تعطيه لحفيدتها، وكلاهما ترتديان الفلكلور الفلسطيني، وهو المفتاح ذاته الذي تمسكه الأم الفلسطينية بيدها القوية رغم تجاعيد السنين في لوحة رائد القطناني، لتبدو خلف المفتاح زركشة الثوب الفلسطيني بلونها الأحمر المشرق بشقائق النعمان.
وتنعطف بنا لوحة الفنانة كفاح آل شبيب إلى طريق العودة عبْر الأجيال مع الجدة وحفيدتها كبطلتين في اللوحة، تتزينان بثوب أبيض مزنر بالأحمر، بينما الحفيدة تمسك جدتها بيد، وتقبض بالأخرى على حقيبة السفر عائدة إلى القدس.
وعلى طريق العودة، نلمح لوحة الفنان مأمون الشايب لنرى كيف تجلس الأم على حجارة أحد البوابات المؤدية إلى المسجد الأقصى جلستها العفوية اليومية وهي تمارس حرفة يدوية موروثة، بثوبها المطرز، وحركة قدميها، بينما تحيط بها شخصيات من المجتمع المقدسي.
بدورها ترسم الفنانة دينا مطر لوحة “على هذه الأرض”، بألوان زاهية وفرحة تلتحفها 3 أمهات مع طفلة وطفل، لتعبّر عن جملة للشاعر محمود درويش متشبثة بالأرض والحياة كما هي مكتوبة على الشال ومطرزة في أماكن أخرى من الزي الفلكلوري.
وأختتم قراءتي بلوحة “الصاعدون للسماء” للفنان محمد الركوعي بما تحمله من دلالات العنوان والألوان وكيف تصعد الأم الشهيدة مع أبنائها الشهداء إلى السماء لتكون الشخصياتِ المضاءة بالتضحية والتي أعطت الأرض ملامحها لتتجذّر ألوانها المزركشة بالأمل والنصر إضافة إلى الفنيات الحاضرة في اللوحة من أشكال هندسية وفراغات لونية وتآويل تحكي الملحمة الفلسطينية إلى ما لا نهاية.