دراساتصحيفة البعث

إصلاح النظام القائم على القواعد يبدأ بالأمم المتحدة

عناية ناصر

زعم الرئيس الأمريكي جو بايدن، في خطابه عن حالة الاتحاد، أن روسيا في ظل زعامة فلاديمير بوتين تتجه نحو “غزو أوروبا وزرع الفوضى في مختلف أنحاء العالم، وتعرّض للخطر ما تسمّيه الولايات المتحدة وحلفاؤها “النظام الدولي القائم على القواعد”. لكن العديد من الناس في جميع أنحاء العالم وخاصة نشطاء المجتمع المدني من الجنوب العالمي، لا يشعرون بالقلق من مزاعم بايدن حول تهديدات بوتين للنظام القائم على القواعد، بل ما يقلقهم التزام بايدن بذلك. فمع العدد الهائل من الضحايا في غزة بسبب الدعم المادي والغطاء الدبلوماسي من واشنطن، يهزّ الكثير منا رؤوسهم أمام ازدواجية بايدن الأخلاقية بشأن الأعراف الدولية.

في الواقع، إذا كان بايدن يريد حقاً إنقاذ النظام القائم على القواعد، فعليه أن يبدأ بالنظر في سلوك الولايات المتحدة، ثم يتعيّن عليه أن يدفع بشكل عاجل إلى إصلاح الأمم المتحدة على النحو الذي يحدّ من نفوذ أمريكا، كما ينبغي على إدارة بايدن أيضا أن تدعم التغييرات المنهجية التي تضع شعوب العالم، وليس القوى العالمية، في مركز عملية صنع القرار العالمي.

لقد أظهرت الكثير من المقابلات والمقالات أن نفاق إدارة بايدن بشأن غزة يقوّض بشكل خطير النظام الدولي القائم على القواعد، وأن أنظمة الحوكمة العالمية الحاسمة مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قد أصبحت الآن عند نقطة الانهيار. إن المجازر الوحشية التي ترتكب يومياً في غزة توضح أن الأمم المتحدة غير قادرة على وقف الحروب ما دامت الأطراف المتحاربة تتمتع بنفوذ في نيويورك.

لقد تجاهلت “إسرائيل” كل قواعد القانون الإنساني الدولي تقريباً في ردّها على عملية طوفان الأقصى البطولية التي شنّتها المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول. ومع ذلك، لم يضع بايدن أي قيود على تدفق الأسلحة الأمريكية إلى “إسرائيل”، حتى مع استخدامها لقصف وتجويع الأبرياء.

في مجلس الأمن، استخدمت إدارة بايدن حق النقض لتغطية تصرّفات “إسرائيل” في غزة التي قالت محكمة العدل الدولية إنها إبادة جماعية، وعرقلت وقف إطلاق النار. مع وجود مثل هذا النفاق على رأس السلطة، لا عجب أن استجابة منظومة الأمم المتحدة تمحورت حول محاولة توفير الإغاثة الإنسانية التي لم تكن كافية على الإطلاق، بدلاً من الدبلوماسية الاستباقية لوقف القتال ومحاسبة الجناة. والولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي تمارس معايير مزدوجة في الشؤون الدولية، فعندما رفعت غامبيا اتهامات بالإبادة الجماعية ضد ميانمار أمام محكمة العدل الدولية، وقفت بريطانيا إلى جانب الروهينجا وقالت: إن منع المساعدات عن المدنيين يعدّ جريمة حرب. ولكن عندما استخدمت جنوب إفريقيا الحجّة نفسها في محكمة العدل الدولية ضد “إسرائيل”، سخر متحدث باسم المملكة المتحدة من الدعوى ووصفها بأنها “خاطئة واستفزازية”.

إن نتائج هذه المعايير المزدوجة موجودة في كل مكان حولنا، عالم يعاني من الحروب، والتفاوت الاقتصادي، وارتفاع درجات الحرارة، ولا تستطيع أي دولة أن تحل هذه المشكلات بمفردها، بل يجب على الجميع أن يعملوا معاً. وعلى الرغم من سجلّه في غزة، فإن بايدن على وجه الخصوص لديه فرصة لسحب النظام الدولي القائم على القواعد من حافة الهاوية، إذ يتعيّن عليه أولاً أن يغيّر موقفه بشأن غزة ليثبت أنه يعتقد أن حقوق الإنسان تنطبق على قدم المساواة، وثانياً، يتعيّن على إدارته أن تدعم إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إما لإلغاء حق النقض الذي أسيء استخدامه وإما السماح للتصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة بتجاوزه، والوقت المثالي لتحقيق مثل هذا التغيير هو “قمة المستقبل” في أيلول في نيويورك. ويمكن لإدارة بايدن أيضاً استخدام “قمة المستقبل” لتحدّي نهج الأمم المتحدة الذي يركّز على الدولة في الدبلوماسية. وفي الوقت الحالي، الأمم المتحدة، على الرغم من التزامها العلني بحقوق الإنسان، تفضّل الحكومات حتى لو كانت غير منتخبة أو غير خاضعة للمساءلة أمام شعوبها. ولتعزيز المشاركة الشعبية والرقابة بدلاً من ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تضغط على الأمم المتحدة لتبنّي التوصيات الخمس لمبادرة المجتمع المدني في “قمّة المستقبل”.

وتشمل هذه الإصلاحات المتواضعة تعيين مبعوث للأمم المتحدة للمجتمع المدني، وتخصيص يوم للمجتمع المدني في الأمم المتحدة، وتوفير وصول عام أوسع إلى الأمم المتحدة من خلال التقنيات الرقمية. وبشكل أكثر جرأة، وبروح ميثاق الأمم المتحدة الذي يبدأ بعبارة “نحن الشعوب”، يجب على فريق بايدن أن يدعم مبادرة مواطني العالم، على غرار عمليات الاتحاد الأوروبي، للسماح للناس بتقديم التماس لعرض القضايا مباشرة أمام الجمعية العامة. والأفضل من ذلك: جمعية برلمانية تابعة للأمم المتحدة تضمّ ممثلين منتخبين إلى جانب الجمعية العامة لتعزيز التوازن بين سلطة الدولة وسلطة الشعب.

إن كل هذه الإصلاحات من شأنها أن تحدّ من قدرة الدول القوية على التصرّف مع الإفلات من العقاب. لكن مقايضة المعايير المزدوجة بالدبلوماسية ثمن باهظ إذا كان ذلك يعني الحدّ من مخاطر جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية في جميع المجالات. قبل كل شيء، سوف تظهر قيادة الولايات المتحدة لإصلاح الحوكمة العالمية أن واشنطن لا تتحدّث عن القواعد فحسب، بل إنها تلتزم بها أيضاً.