دراساتصحيفة البعث

الرصيف العائم.. حصان طروادة “الإسرائيلي”

سمر سامي السمارة

تسمح الأرصفة البحرية بدخول المواد كما تسمح بخروجها، ويبدو أن “إسرائيل” التي لا تنوي فكّ حصارها القاتل لقطاع غزة، بما في ذلك سياسة التجويع القسري، وجدت حلاً لمشكلتها المتمثلة في المكان الذي يتعيّن عليها أن تطرد منه 2.3 مليون فلسطيني من أرضهم.

وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن اقترح خلال الجولة الأولى من زياراته بعد تشرين الأول، ترحيل الفلسطينيين على متن سفن تأخذهم إلى منفاهم الدائم، وخاصة أن الأمر ذاته نجح في بيروت عام 1982 عندما تم إرسال حوالي ثمانية آلاف وخمسمائة من أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية عن طريق البحر إلى تونس، وانتهى المطاف بإرسال ألفين وخمسمائة آخرين إلى دول عربية أخرى، وتتوقّع “إسرائيل” أن ينجح الترحيل القسري نفسه عن طريق البحر في غزة.

ولهذا السبب، تدعم “إسرائيل” الرصيف المائي المؤقت الذي تبنيه إدارة بايدن، لتوصيل الطعام والمساعدات المزعومة إلى غزة، التي سيشرف على “توزيعها” جيش الاحتلال الإسرائيلي.

صرّح جيريمي كونديك رئيس المساعدات الخارجية في الكوارث الأجنبية في الولايات المتحدة سابقاً، ورئيس المنظمة الدولية للاجئين حالياً لصحيفة “الغارديان” قائلاً: إنك بحاجة إلى سائقين غير موجودين، وشاحنات غير موجودة تسهم في تعزيز نظام توزيع غير موجود، مضيفاً: إن هذا “الممر البحري” هو بمنزلة حصان طروادة “الإسرائيلي”، ليس إلا حيلة لطرد الفلسطينيين، فشاحنات المساعدات البحرية الصغيرة، مثل العبوات الغذائية التي تم إنزالها جواً، لن تخفّف من حدة المجاعة التي تلوح في الأفق، وليس الغرض منها ذلك.

فعندما تعطلت مظلة تحمل مساعداتٍ سقطت الطرود على حشد من الناس بالقرب من مخيم الشاطئ للاجئين غرب قطاع غزة، فاستشهد خمسة فلسطينيين، ووصف المكتب الإعلامي للحكومة المحلية في غزة عمليات إنزال المساعدات بهذه الطريقة، بأنها استعراض وليست خدمة إنسانية.

لو كانت الولايات المتحدة جادة في تخفيف الأزمة الإنسانية كما تدّعي، فسوف يُسمح لآلاف الشاحنات المحمّلة بالمواد الغذائية والمساعدات الموجودة حالياً على الحدود الجنوبية لغزة بالدخول إلى أي من معابرها المتعدّدة، لكنها غير جادة، ومن المؤكد أن “الرصيف المؤقت”، لا يختلف كثيراً عن عمليات الإنزال الجوي.

صحيفة “جيروزاليم بوست” ذكرت أن رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، هو من اقترح بناء “الرصيف المؤقت” على إدارة بايدن، كما أشاد وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت، الذي وصف الفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية” بالخطة. وفي مقال للكاتبة تمارا نصار بعنوان: ما هو الهدف الحقيقي لميناء غزة في عهد بايدن؟ تساءلت نصار قائلة: “لماذا تؤيّد “إسرائيل” مهندسة المجاعة في غزة، فكرة إنشاء ممر بحري لمعالجة الأزمة التي بدأتها والتي تتفاقم الآن؟ مشيرة إلى أن هذا التأييد يبدو متناقضاً مع الافتراض بأن الهدف الأساسي للممر البحري هو توصيل المساعدات، مضيفة: عندما تقدّم “إسرائيل” هدية للفلسطينيين، يمكنك التأكد من أنها تفاحة مسمومة، فقيام “إسرائيل” بإقناع إدارة بايدن ببناء الرصيف هو مثال آخر على العلاقة المقلوبة بين واشنطن والكيان، حيث قام اللوبي “الإسرائيلي” بشراء مسؤولين منتخبين في الحزبين الحاكمين.

منظمة أوكسفام اتهمت في تقريرها الصادر في 15 آذار، “إسرائيل” بعرقلة عمليات المساعدات في غزة في تحدّ لأوامر محكمة العدل الدولية، ويشير التقرير إلى أن 1.7 مليون فلسطيني، أي حوالي 75% من سكان غزة، يواجهون المجاعة وأن ثلثي المستشفيات وأكثر من 80% من جميع العيادات الصحية في غزة لم تعُد صالحة للاستخدام، كما أن أغلبية الناس لا يحصلون على مياه الشرب النظيفة وخدمات الصرف الصحي لا تعمل.

وأفاد التقرير بأن الظروف التي تم لحظها في غزة تتجاوز نطاق الكارثة، ولا تكمن المشكلة في فشل السلطات “الإسرائيلية” في الوفاء بمسؤوليتها في تسهيل ودعم جهود المساعدات الدولية فحسب، بل بملاحظة اتخاذ تدابير فعالة لعرقلة وتقويض جهود المساعدات هذه، ولا تزال سيطرة “إسرائيل” على غزة تتسم بإجراءات تقييدية متعمّدة أدّت إلى خلل شديد ومنهجي في إيصال المساعدات.

وتفيد المنظمات الإنسانية العاملة في غزة بتدهور الوضع منذ أن فرضت محكمة العدل الدولية تدابير مؤقتة على ضوء الخطر المحتمل بوقوع إبادة جماعية، بالإضافة إلى تكثيف الحواجز والقيود والهجمات “الإسرائيلية” ضد العاملين في المجال الإنساني، فقد حافظت “إسرائيل” على “وهم الرد المريح” في غزة لخدمة ادّعائها بأنها تسمح بالمساعدات وتدير الحرب بما يتماشى مع القوانين الدولية.

وحسب منظمة أوكسفام، “إسرائيل” تستخدم نظام تفتيش غير فعّال وغير كافٍ، ما يبقي المساعدات مكدّسة، وتخضع لإجراءات بيروقراطية مرهقة ومتكرّرة وغير متوقعة، ما يساهم في إبقاء الشاحنات عالقة في طوابير طويلة لمدة 20 يوماً بمعدل وسطي، كما توضح المنظمة أن “إسرائيل” ترفض مواد المساعدات مدّعية أنها ذات استخدام عسكري مزدوج، كما تحظر الوقود الحيوي والمولدات بالكامل إلى جانب المواد الأخرى الضرورية لاستجابة إنسانية ذات معنى مثل معدات الحماية الشخصية ووسائل الاتصالات، فالمساعدات المرفوضة يجب أن تمرّ عبر نظام “الموافقة المسبقة” المعقد وإلا فسينتهي بها الأمر في طيّ النسيان.

وأضافت المنظمة: إن “إسرائيل” قامت “بقمع البعثات الإنسانية، حيث أغلقت شمال غزة إلى حد كبير، وقيّدت وصول العاملين في المجال الإنساني الدوليين إلى غزة، والضفة الغربية والقدس الشرقية أيضاً، وسمحت بدخول 15413 شاحنة فقط إلى غزة خلال 157 يوماً منذ العدوان الجائر.

وتقدّر أوكسفام أن سكان غزة يحتاجون إلى خمسة أضعاف هذا العدد، وللإشارة، سمحت بدخول 2,874 شاحنة في شباط، أي بانخفاض بنسبة 44 بالمائة عن الشهر السابق، وقبل السابع من تشرين الأول، كانت 500 شاحنة مساعدات تدخل غزة يومياً.

وقتل الجنود الإسرائيليون عشرات الفلسطينيين الذين حاولوا الحصول على المساعدات من الشاحنات في أكثر من عشرين حادثة،  واستشهد ما لا يقل عن 21 فلسطينياً وأصيب 150 آخرون، عندما أطلقت قوات الاحتلال الإسرائيلية النار على آلاف الأشخاص في مدينة غزة، كما أن المنطقة نفسها تم استهدافها من قوات الاحتلال الإسرائيلية قبل ساعات من ذلك، وأفادت المنظمة بأن الهجوم فرض على عمال الإغاثة في غزة ووكالات دولية وشركاء من بلدان أخرى الوجود في بيئة غير صالحة للسكن.

وترى منظمة أوكسفام أن “إسرائيل” تستخدم المجاعة كسلاح حرب، مؤكدة أنه لا يوجد مكان آمن في غزة وسط عمليات النزوح القسرية والمتعدّدة في كثير من الأحيان لجميع السكان تقريباً، ما يجعل التوزيع المبدئي للمساعدات غير قابل للاستمرار، بما في ذلك قدرة الوكالات على المساعدة في إصلاح الخدمات العامة الحيوية على نطاق واسع.

انتقدت المنظمة “إسرائيل” بسبب هجماتها “العشوائية على الأصول المدنية والإنسانية، وكذلك محطات الطاقة الشمسية والمياه والكهرباء والصرف الصحي ومباني الأمم المتحدة والمستشفيات والطرق وقوافل المساعدات والمستودعات، حتى عندما تكون هذه الأصول من المفترض أن يتم “فصلها” بعد مشاركة إحداثياتها من أجل الحماية.

في واقع الأمر، ونظراً للهجوم البري الوشيك على رفح، حيث يكتظ 1,2 مليون فلسطيني نازح في الخيام أو يعتصمون في الهواء الطلق، فإن التكتيكات الإسرائيلية سوف تزداد سوءاً، حيث تخلق “إسرائيل” عن عمد، أزمة إنسانية ذات أبعاد كارثية، مع قتل الآلاف من الفلسطينيين بالقنابل والقذائف والصواريخ والرصاص والمجاعة والأمراض المعدية، بحيث يصبح الخيار الوحيد هو الموت أو الترحيل.

لقد أصبح واضحاً أن الرصيف هو المكان الذي سيتم من خلاله الفصل الأخير في حملة الإبادة الجماعية الشنيعة، فحصان طروادة “الإسرائيلي” الذي يتم بناؤه قبالة سواحل غزة في البحر الأبيض المتوسط، لا يهدف  للتخفيف من حدة المجاعة، بل إلى حشر الفلسطينيين على متن سفن تأخذهم إلى المنفى الدائم.