واقع..
عبد الكريم النّاعم
*ممّا جاء في “المنجد”: “وقَعَ الشيء يقَع وقوعا سقط من يدي، وقع الحقّ: ثبت، وقع القول عليهم: وجَب، الوَقعة – المَرّة من وقع: الصدمة في الحرب، الوقّاع: الذي يغتاب الناس.
* منذ أربع سنوات متتالية وهو يذهب إلى أطباء العين، الجميع يشيدون بالشبكيّة، ويقولون له: “لا شيء، بعض القطرات، التهاب جفن”، وهو يُراوح في مكانه، لاحظ أنّه حين يخفّف من القراءة يتحسّن، ولكنّ القراءة حياته، ولا يستطيع الحياة مختارا دونها.
* في عيادة طبيب صديق، كان من أعلام حمص، وقبل أكثر من أربعين سنة حين فحص عينيه، قال له ببشاشة: “يبدو أنّك قد أُصِبت وأنت صغير بمرض في عينيك، هذه يسمّونها تراخوما، وتابع: “إنّها أمراض الشرائح الرثّة – مفردة (الرثّة) نخزتْه – هو يعرف إنّه من الشريحة الاجتماعيّة الفلاحية العماليّة، لكن لفظة “الرثّة” خشنة.
* طبيب العيون الوحيد الذي عرفه في طفولته كان امرأة، في قرية قريبة من القرية التي وُلد فيها، وكانوا يسمّونها “الوقّاعة”، ربّما لكثرة ما تعالج ما يقع في العين، ولا سيّما أيام البيادر، والدرس، والتّذرية، فتقع نثرات صغيرة داخل العين مؤذية، فيذهب المُصاب إلى “الوقّاعة”، فتُخرِج من صندوقها حرير قزّ على شكل قطن، وتفتح الجفن، وتمرّره بنعومة، فيعلَق ما في الجفن من قذى بالقزّ، فتريه إياه، وكان أجرها عشرة قروش سوريّة لا غير.
يوم اشترت له والدته قطرة عين اسمها “اللؤلؤ”، اشترتْها بربع ليرة سوريّة، استخفّ بها جاراتها، وعدّوا ذلك تبذيراً، فغداً حين تَخضرّ المَزابل سوف يُشفى؟!!
* تنويعاً على وتر الواقع، والواقعة، يُعدّ ما يجري، في المنطقة أكثر غرابة من الغرابة ذاتها.
زاره صديق في فترة وجود الكهرباء التي لا تتجاوز النصف ساعة كل ست ساعات، أراد أن يتصفّح رؤوس أقلام الأخبار، وأخبارُ غزّة تطغى على كلّ شيء، فغزة لم تعد مساحة جغرافية، بل هي مساحة روحيّة، مساحة قضيّة أرادوا أن يمسحوها من الذاكرة، كما يمسحونها من الجغرافيا.
ملأ الدمار والخراب الشاشة، أغمض صديقه عينيه وأدار وجهه، سأله: “ما بك؟”، أجابه: “لا أستطيع رؤية هذه المناظر”.
تساءل بينه وبين نفسه: تُرى إذا كنّا نمشي في جنازة، وأغمضنا عيوننا، وغابت الصورة، هل ذلك يعني أنّنا قد خرجْنا من المَشهد؟!
اقتحمتْ ذاكرتًه صورة صديق لا يعرف أين أصبح الآن، كان في جلساتهم التي لا تخلو من مسحة تساؤليّة عميقة، لا سيّما فيما يتعلّق برهافة الإحساس.. هذا الصديق كان يتمنّى لو يستطيع العلم وضع اليد على نقاط الإحساس، ويركّب لها مفاتيح يستطيع التحكّم بها الانسان، فإذا أراد أن يُقفل إحساسا ما يضغط على ذلك الرزّ، فلا يعود يحسّ به، وتذكّر أنّه قال له: هذا يعني أن يتحوّل الانسان إلى “إنسابوت”، أعني “إنسان رابوت”.. أعجب صديقه بنحت الاسم، وأصرّ على أنّ ما يتمنّاه هو الأرحم، لأنّ الواقع لم يعد يُحتمَل.
استعاده جليسه من مناطق تداعياته، وسأله وكأنّه يُكمل حواراً بدأه معه، دون علمه: “هل هذا الواقع قَدَر خارجي، أم لأنّ الداخل والخارج قد أجّجاه، فصار بهذا السعير؟!!”.
قال: “حين نكون في الحالة التي نحن عليها، قد لا يتّسع المجال للبحث في أيّهما السبب، علماً أنّ المعطيات تفيد أنّ الداخل والخارج مسؤولان، وربّما كان ضعف الداخل هو الذي سمح للخارج بذلك التغوّل. إنّ البحث عن كيفية الخروج من عنق الزجاجة أجدى من كيف حدث ذلك، ربّما كان البحث من مهام الذين يأتون بعدنا، للاستفادة، ليس إلاّ..
aaalnaem@gmail.com