كلّنا يكمل كلّنا مع دوران الشمس والقمر
غالية خوجة
حياتنا عبارة عن منظومة من المفاهيم المختلفة والمتنوعة، وتغييرها نحو الأفضل والأنسب، والأكثر إيجابية ومصلحة عامة، لا ينطلق من هاجس التغيير الجمعي، بل من هاجس التغيير الفردي، لأن كل إنسان أعلمُ بمكنوناته الداخلية وبنيته وتربيته وضميره وشخصيته المتفاعلة مع نصفها المضيء ونصفها المظلم، ولذلك، أكد “ليو تولستوي” على هذا البعد الجوهري بمقولته: “الجميع يفكر فيتغيير العالم ولا أحد يفكر بتغيير نفسه”.
والبيئة الجمعية بحاجة إلى تشخيص لأمراضها المفاهيمية وأعرافها وعاداتها المعتمة لا المضيئة، وسلوكياتها الواقعية، وتحليلها، والكشف عن الجانب المظلم منها، في محاولة لتبيان المفيد الذي لا ينتفع من الناس كلهم، بل ينفع الناس كلهم حتى لو شكّل ضرراً للذات المفردة الأمّارة بالسوء والفساد والأنانية والتكتلات والتجمعات والجماعات المتوافقة المصالح الخاصةالمتفقة ـ جماعات وفرادى ـ على استنزاف المصالح العامة لصالحها لا القائمة على استنزاف الذات في خدمة الصالح العام.
ومن تلك الأساليب التي لا تحصى العمل على نفي المختلف الإيجابي من فاعليته في منظومة ما، لتزيد هذه المنظومة من استبدادها في المساحة والساحة مالئة الفراغ تبعاً لنظرية الفراغ، وتستقطب من يتوافق مع ظلماتها، لتضمن استمراريتها في بيئتها التي زرعتها بالأقل قدرة وطاقة وفاعلية أطول زمن ممكن قد يمتد إلى لحظة الوفاة.
وهذه المنظومة من اللاوعي المظلم الظالم الحاقد على كل ضوء يواصل في تشبيك علاقاته لتصبح إرثاً مفاهيمياً يتسرب إلى لا وعي البيئة المحيطة حتى لو كانت من الجيل الشاب، ما يساهم في استدامة هذه المنظومة المعتمة عبْر طبقات زمنية لا تنتهي بموت مؤسسيها لأنها تستمر مع من يتبنونها أيضاً!
والسؤال: كيف نستوعب مثل هذه البيئة ونحاول تحييدها أو توعيتها لتستوعب بيئة الاختلاف الإيجابية وإشراقات اللاوعي الفردي الموجب ليتشابك مع البيئة العامة؛ ويبدأ بأداء دوره الفاعل المتداخل مع الدور الجمعي الفاعل للمساهمة في تغيير المسارات من مظلمة إلى مضيئة؟ وتغييرها من نفق المصالح الذاتية الضيق إلى نهر المصالح العامة؟
للأسف، هناك من يظنّ رسالته وأهدافه لا تتحقق إلاّ بالإيذاء والشر والتفنّن بأساليب الإيذاء والشر، وبالمقابل، هناك من يدفع حياته ليستمع لرأيك كما قال الشاعر الفرنسي “فولتير”: “قد أختلف معك في الرأي، لكني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عن رأيك”، ليتبنّاه فيما إذا كان مناسباً وفاعلاً وإيجابياً، ويوظفه في منظومة النسق المناسب.
بداية، لا بد من استئصال الحقد من اللاوعي الفردي لأنه أكبر مشوش على قبول الآخر المختلف الأكثر إيجابية وبناء، والاقتناع بمفهوم التشاركية من أجل الجميع، والعمل معاً بمجمل الطاقات الممكنة لتغيير الأعماق، والانخراط في عملية البناء الممنهجة والهادفة على كل المستويات الإدارية والقاعدية والشعبية، لأن المنجز المتطور المقصود بحاجة للجميع، ولكل الأدوار، صغيرها وكبيرها معاً، وهذا يذكّرني بدرس من دروس منهجنا الابتدائي، ومحوره أن أحد الطلاب ناله دور صغير في المسرحية، وكان حزيناً لأنه لم يحصل على دور البطولة، فما كان من والده إلاّ أن أحضر له ساعة يد، وفككها، وأراه كيف أن كل ما تتضمنه الساعة من أدوات ومسننات وعقارب لن تعمل إذا فقدت برغيّها الصغير، فابتسم واقتنع بأن دوره هو دور بطولة أيضاً.
الجميع بحاجة الجميع، وكلّنا يكمل كلنا، وليس أجمل من الأداء المحكوم بالتناغم المتواصل والانسجام الإيجابي، لتستمر عجلة الحياة بالدوران تجاه الشمس، ولتستمر أجيالنا مصدراً مشعاً بإرثها، وبانياً لحاضرها، ورائياً لمستقبلها، ومهتماً مسؤولاً باستمرار دوران الشمس والقمر.