المسرح والخوف المشروع!!..
نجوى صليبه
“المسرح ذاك السّاحر الذي جُسدت عليه أفكارنا فانشغل بها وتعلّقنا فيه سحراً، وأصبحنا في أرجائه ننتظر دقّاته الثّلاث لنصغي معها”، يقول الكاتب المصري مجدي محفوظ مهنّئاً المسرحيين في اليوم العالمي للمسرح.
كذلك تفعل المسرحية الأردنية صبحة علقم، لكنّها تمزج التّهنئة بذكريات حزينة وجميلة في آن معاً، تقول: “في اليوم العالمي للمسرح، أذكّر المسرحيين بأجدادهم الأوائل الذين أُحرقت مسارحهم، ومُنعت عروضهم، وأذكّرهم بجوهر المسرح ورسالته التّوعوية والتّعبوية، وبدوره الرّيادي في تشكيل رأي الجماهير ومواقفهم… المسرح موقف، والموقف كرامة، والكرامة فوق دبق الدّنيا ومغرياتها.. نحن كبشر زائلون، لكن يبقى المسرح الموقف ما بقيت الحياة”.
نعم هو كذلك، وإلّا لما استمرت العروض المسرحية في سورية خلال سنوات الحرب، وما اشتغل المسرحيون السّوريون على أضواء هواتفهم النّقالة، وما تصدّوا للقذائف والتّفجيرات الإرهابية بالنّزول إلى المسرح يومياً، متحدّين كلّ الظّروف والمخاطر، يقول الفنّان أيمن زيدان في منشور له على حسابه الشّخصي على الـ”فيسبوك” بمناسبة يوم المسرح: “سيظلّ المسرح متباهياً بتفرّد عالمه وشموخ هالته، على الرّغم من كلّ التّحديات التي واجهته”، مسترجعاً بعض المحطّات والمراحل المصيرية بالنّسبة للمسرح خصوصاً، يقول: “حين أطلّت السّينما بصورها الشّيطانية أثارت قلق هذا المتباهي وكادت تقضّ مضجعه، فاستعان بكلّ الوسائل للدّفاع عن نفسه على الرّغم من أنّ الصّراع في ذاك الحين لم يكن متكافئاً، حينها استنفر رجالات المسرح بحثاً عن مصادر توازن للصّراع الذي أصبح أمراً واقعاً لا محالة، بعضهم استعار كثيراً من التّقنيات الوافدة، والبعض الآخر جنح نحو الإغراق في البساطة والتّبسيط، لكنّ المخاوف بقيت قائمة، بل أخذت أشكالاً أكثر تعقيداً مع ظهور الوافد الجديد “التّلفزيون”، ثمّ توسّعت دوائر التّحديات بعد أن تطوّرت وسائل الاتّصال البصرية والسّمعية تطوّراً مذهلاً حوّل العالم إلى قريةٍ صغيرةٍ ووسّع خيارات المتفرّج الذي كان في يومٍ من الأيّام يرى في المسرح فرجةً سحريّةً أخّاذة.. جملة الظّروف التي وجد المسرح نفسه فيها حرّضت رجالاته على التّمسّك بعناصر تفرّده الخاصّة فيه فقط، اللقاء الحارّ والحي والمباشر مع الجمهور، وشرطيته التي تتيح له إعادة تركيب العالم ومفردات الحياة بصيغه هو وقوانينه هو.. في المسرح فقط يكون المتفرّج شاهداً على خطوات خلق الصّيغة الفرجوية النّهائية في كلّ عرض يحضره”.
هذا ما يؤكّده أيضاً الكاتب المسرحي جوان جان في حديثه الخاص للـ”البعث” بالقول: “لم يكن فنُّ المسرح ـ في يوم من الأيّام ـ بمنأى عمّا يمكن أن يحيط به من ظروف وتطورات وتغيرات سواء على الصّعيد الاجتماعي أم الاقتصادي أم السّياسي، سلباً أو إيجاباً، وفي السّنوات الأخيرة أضيفت إلى عوامل التّأثير هذه تأثيرات ذات طابع تكنولوجي وتقني تمثّلت بالتّطوّر الهائل الذي طرأ على وسائل التّواصل والإعلام وأساليب التّوجّه نحو المتلقي بحيث يمكن القول إنّ ثورةً حقيقيةً لم تكتمل بعد، ويبدو أنّه ليس ثمّة حدود لها تعيشها وسائل التّواصل والاتّصال وترخي بظلالها السّلبية على الفنون والآداب بأشكالها التّقليدية التي نعرفها واعتدنا عليها وألِفناها منذ مئات السّنين، ولا شكّ في أنّ المسرح يشكّل الحلقة الأضعف من بين سلسلة الآداب والفنون المشار إليها لأنّه ـ وهو يجمع بين الأدب المسرحي نصاً والفنّ المسرحي عرضاً- كان الأكثر تأثّراً بالمنعطفات الاجتماعية والاقتصادية والسّياسية وتأثيرها المباشر عليه، وهو الفنّ الذي ولِد ـ في بلادنا ومنطقتنا العربية على الأقل- من رحم الحراك الاجتماعي، وما لحق به من تداعيات اقتصادية، ميّز مجتمعنا في بلاد الشام في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر عندما ظهرت بوادر نهضة فكرية عربية خجولة في وجه سياسات التّجهيل والتّحنيط الفكري التي كانت تمارسها سلطات الاحتلال العثماني على أبناء شعبنا، فكان لا بدّ من انبثاق حركة فكرية- فنية تراعي إرهاصات هذه النّهضة، فكان أن ولِدَت تجربة مارون النقاش المسرحية في بيروت، لتليها مباشرةً تجربة أحمد أبو خليل القباني المسرحية في دمشق، وكلتاهما شكّلتا شكلاً من أشكال الرّغبة في التّحرر من قبضة الاحتلال الفكرية، وإن بشكل بدا غير واعٍ لنفسه، على الأقلّ في بداياته، لكنّ هذا الحراك، وبالتّحديد تجربة القباني، ما لبث أن اتّخذ لنفسه لبوس مواجهة الفكر المتسلّط السّائد سياسياً واجتماعياً، فكان أن تكتلت ضدّه قوى مجتمعية رجعية ألّبت عليه الرأي العام في جانبه الغوغائي، ما اضطره إلى تفكيك أدواته الفنية ورؤاه الفكرية والتّوجّه بها نحو القاهرة لتزدهر هناك وتثمر أعمالاً مسرحية شكّلت القاعدة المتينة لمسرح مصري قويّ ومتمكّن فيما بعد”.
إذاً أمام كلّ هذه التّحديات والإرهاصات القديمة ـ الحديثة، لابدّ من السّؤال: هل نخاف على المسرح أم لا؟ يجيب جان: “اليوم يبدو المسرح في بلادنا العربية أمام تحدّيات أكثر هولاً وأشدّ شراسة، فالقوى الرّجعية التي أجهضت بأدواتها البسيطة تجربة القبّاني في مهدها أضحت تمتلك وسائل إعلام ضاربة ذات أثر تدميري على البنية الاجتماعية والفكرية العربية التي أصبحت، اليوم، أسيرة أحادية مفرطة في التّفكير ونمط العيش لا سابق لها، فإذا لم تتنادى القوى العربية الفاعلة فكرياً وفنياً للوقوف في وجه هذا الطّوفان فإنّ واقعاً أليماً ينتظر الآداب والفنون النّبيلة، وفي مقدمتها المسرح الذي يبدو، اليوم، يتيماً وقد تخلت عنه الحكومات والمؤسسات المعنية بالشّأن الثّقافي والفنّي، وتراجع دوره وتحوّلت خشباته إلى “مولات” تجارية أو مقاهٍ، ولا تشكّل هذه الحقيقة المرّة سوى الجزء الأصغر من واقع مؤسف وصل إليه حال المسرح العربي وهو يترنّح أمام الضّغوطات الهائلة التي يتعرّض لها”.
أمّا الفنّان أيمن زيدان فيرى أنْ لا خوف على المسرح كوسيلة اتّصال من أن تهزمه كلّ الإنجازات والاختراعات البشرية، لكن الخوف الحقيقي عليه من مؤسساته ومن العاملين فيه، موضّحاً: “لأنّه وبحكم تكوينه يحمل نقطة ضعفه.. روعته أنّه فنّ جماعيّ ومصدر القلق المشروع عليه أنّه كذلك.. إنّ حاجة المسرح للمؤسسة هي التي تقلقنا عليه، فقد ارتبط طوال تاريخه بمفهوم المؤسسة التي كانت حاضنة له وجسر عبوره الرّئيس للنّاس، لذا تتحمّل المؤسسات المعنية بالمسرح المسؤولية الرّئيسة في الدّفاع عن أنبل أشكال التّواصل المعرفي”.