عمر البطش أمير الموشحات ورقص السماح
فيصل خرتش
عاش عمر البطش في العقد الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين في حي الكلاسة الشعبي (ولد عام 1885)، وفي هذه الفترة شهدت الحركة الثقافية والفنية تنامياً مستمراً ومتفاعلاً مع الأحداث، فقد افتتحت نواد عديدة للتمثيل والموسيقا، وعاش في مناخات المدينة مؤثراً ومؤثراً، مبدعاً ومجدداً الموشحات والسماح ومتمثلاً لعلوم الموسيقا العربية الأصيلة.
ويعدّ حي الكلاسة من أقدم الأحياء الشعبية، وأنجب بعض رجال الفكر والأدب، ولا تزال الذاكرة تحتفظ بصورة الأستاذ عمر البطش وهو يسير في سوقها الطويل، مدندناً بلحن قديم أو جديد، ومتّجهاً نحو داره المتواضعة القائمة في نهاية السوق، عند الزاوية الشرقية للساحة، وكان البطش متصوفاً في الفن تماهى فيه وكرّس له حياته.
أرسل عمر البطش إلى شيخ الكتّاب، ليتعلّم القراءة والكتابة والتجويد وعلم الدوبيا، وبعد أن ختم القرآن وأقيمت له النشيدة، ترك الكتاب، فقد كان عليه أن يبدأ معركة الحياة وهو صغير، عمل مع أبيه في مهنة الكلاسة، ولما اشتد ساعده وجد خاله الحاج بكري القصير أنَ هذه ليست مهنة، فأخذه معه ليعلّمه صنعة البناء، وكان الخال فناناً ومنشداً، واكتشف فيه رغبة وميولاً فنيَة، فأخذ يصحبه معه إلى الأذكار وسهرات البيوت الفنية، واشتهر بصوته الحسن وإنشاده المتقن.
كان للبطش ذائقة رفيعة واستيعاب للمعارف الفنية بشكل واسع وذاكرة ممتازة، كما قرأ سفن الألحان، وقادته الرحلة التي بدأها مع خاله قادته إلى شيوخ الفن في حلب، إذ أخذ منهم ما تتطلّبه الموهبة والإبداع من علوم ومعارف في الموشحات وعلم النغمة والأوزان ورقص السماح، كما تعلّم العزف على العود، وبعض الآلات الأخرى، واهتمّ برقص السماح، وأخذه عن خبرة أساتذته كالشيخ صالح الجذبة الذي كان مدرّب فرقة أبي خليل القباني لرقص السماح، وألحق بالفرقة الموسيقية عندما دُعي إلى الخدمة العسكرية في عام 1905، فتعلَم هناك التدوين الموسيقي والنوطة، ويبدو أنه عمل بعض المقطوعات الموسيقية فأعجب بها قائد الفرقة فمنحه رتبة جاويش.
في عام 1912 تكوَنت جوقة من أشهر الفنانين في حلب، منهم: عمر البطش، وعلي الدرويش، وأحمد العطار، وعبدو بن عبدو، سافروا إلى المحمرة، لأنَ حاكمها الأمير خزعل الذي كان يحب الأدب والفن دعاهم إليها، وتقاطر أهل المحمرة لسماع الموشحات والمواويل والقدود الحلبية وهي تنساب في هدوء الليل، وكانت ألحان البطش تجتذب القلوب والأسماع، وبقيت الفرقة هناك ستين يوماً عادت بعدها الفرقة إلى حلب، استطاع البطش أن يوسّع معارفه بالاطلاع على الموسيقا والأغاني العراقية والخليجية.
في المرة الثانية حين استدعي للجيش، خدم في دمشق، وذلك أيام الحرب الأولى، وهناك اتصل به فنانو المدينة وأخذوا عنه الموشحات والأوزان ورقص السماح، وعاد إلى حلب ليعمل ضابطاً للإيقاع وهو في الثلاثين من عمره، في فرقة ماري جبران وزكية حمدان.
لقد أعطى الإنشاد عمر البطش في الزوايا الصوفية قيمة جديدة، وخرج به إلى التجديد والتحديث، وقد ظلّ في داره يدرّس الموشحات ورقص السماح إلى أن افتتح معهد الموسيقا الشرقية عام 1943 فدعي للتدريس فيه، وكان فخري البارودي مديراً له راعي الفنون والآداب، وقد نهل من علومه وحافظته تلامذة أصبحوا من كبار الفنانين، وأسّس في المعهد فرقة للغناء ورقص السماح كانت تحيي سهرات المعهد الموزّعة على أيام السنة، وكانت داره في دمشق مقصد التلامذة وأساتذة الفن يأخذون عنه ويستمع إلى نتاجاتهم وأصواتهم.
وجاء في كتاب “حلب في مئة عام” أنَ البطش درّس في المعهد الفني للموسيقا الشرقية، وفي عام 1945 أصيب بمرض في عينيه، تفاقم حتى خاف من فقد بصره، وبعد أن منحه الله الشفاء، وقد لحن موشحه المشهور في هذه الفترة:
غاب عن عيني ضياها يا قمر دار العيون
بعد إغلاق المعهد الموسيقي في دمشق عام 1949 عاد البطش إلى حلب، وكانت الإذاعة قد افتتحت وعمل المدير على استقطاب الأسماء الفنية إليها، وكان من جملتهم عمر البطش، فأخذ يدرّب المغنين كما ساهم في برامجها، وشكل المدير ثلاث فرق، الأولى باسم أحمد عقيل، والثانية باسم البشنك، والثالثة باسم عمر البطش.
لا يدرّ الفن في تلك الأيام على أصحابه، وخاصة إذا كان ملحناً أو مدرب سماح، ما يقيم أودهم ما لم يكن مطرباً في الأعراس والحفلات، لذلك قرّر عمر البطش ترك العمل في المسارح والاقتصار على عمله في الأذكار، وافتتح دكاناً صغيراً، وظلّ ملازماً الأذكار، واصطفى بعض التلامذة يعلَمهم في داره الموشحات والأوزان ورقص السماح.
كان البطش سمحاً حليماً متواضعاً، حلو المعشر مهذب اللسان ذا أخلاق نبيلة، وكان مرحاً طيباً، لكنه لم يكن صوفياً، وعمله في الزوايا تقتضيه المهنة.
يذكر أدهم الجندي في كتابه “أعلام الأدب والفن” أنَه في عام 1947 عهدت الحكومة إلى الخبير التركي رفيق فرسان بإدارة المعهد الفنية بدمشق، وجرت بينه وبين البطش مساجلات حول بعض النغمات المجهولة، ويعتقد الخبير بأنَه الوحيد الذي يعرفها، وفوجئ بالبطش أنَه ينشدها من ألحانه موشحات من تلك المقامات، فدهش الخبير، وقال قولته الشهيرة: “ما حاجتكم إلى مثلي، ولديكم هذا الفنان”.
في السنة الأخيرة من حياته أصيب بالشلل، وتوفي الفنان الكبير عمر البطش يوم الاثنين الحادي عشر من كانون الأوَل عام 1950، وعمل تلامذته على دفنه، وبوفاته انطوى علم لا يعلم أنَ تاريخ فن الموشحات قد أتى بمثله، أليس عجيباَ أن يتحوَل عامل بناء إلى أعظم معمار عرفه تاريخ الموشحات ورقص السماح فيبني لمجد هذا الفن هذه العمارة الشامخة من الموشحات الحلبية.