الوقت يغني: “دقي دقي يا ربابة”
حلب- غالية خوجة
يتلألأ البدر الرمضاني ناثراً حكاياته على حلب الشهباء وهي تستعيد ذكرياتها التي كانت قبل الحرب الظلامية والزلزال، متسائلة عن الذين كانوا هنا؟.
ربما أطيافهم لم تغادر هذه المدينة، وقلوبهم معلقة مثل النجوم المطلة على بيوتهم ومدارسهم وأماكن عملهم والشوارع التي تسترجع خطواتهم وبيوت الأجداد التي كانت تجمعهم مع الأقارب حول مائدة الإفطار.
بعض الجدات والأجداد والأهل والأقارب والأصدقاء والمعارف رحلوا على التوابيت، وأغلب العمارات تتوكأ على ما تبقّى منها، لكن الأمل ما يزال يتسرّب مع أشعة الشمس وصوت المآذن وأجراس الكنائس.
ووحدها الملامح تخبرك عن أفكار أصحابها الراكضين بحثاً عن الطمأنينة وقوت يومهم، بينما تنتشر ملامح أخرى باحثة عن طريقة لإيصال الخير لأهله، وهذا ما اعتادته حلب من أهلها على أهلها، فلا يبيت إنسان جائع إلاّ البعض من الأطفال والكبار الذين شرّدتهم الكوارث، فسلبت منهم أحبتهم وبيوتهم، وسلبت عقول بعضهم، وكم هؤلاء بحاجة إلى الرعاية من الجهات المختصة.
الضجيج يستنفر قبل أذان المغرب، ورجال الشرطة يؤدّون واجبهم، والباعة يمعنون دائماً في الاستيلاء على الأرصفة لنشر بضائعهم، فلا تردّهم الجهات المسؤولة، ولا هم يرحمون المارّة الذين يحتارون كيف يمشون في شوارع هذه المدينة التي تغلب عليها الفوضى، وتتمتع بقدر كبير من المظاهر غير الحضارية، مثل انتشار الأوساخ، وتكاثر الحفر، وتراكم الطين مع الماء، وما تخلّفه مولدات الأمبيرات الخاصة حتى أن نهر قويق حزين مما يتراكم فيه من مواد نفطية وأوساخ خاصة بهذه الآلات وأخرى خاصة بالبشر.
حلب العراقة التي نحبها وتحبنا بحاجة إلى الترتيب والأناقة، فلا يعقل أن نشاهد هذه الدادائية السلبية مع صراخ أبواق وسائل النقل والسيارات، وازدحام الناس على المواقف، وازدحامهم داخل وسائل النقل الجماعي، وأمام الصرافات الآلية، وأمام الأفران.
ولو شاهدنا الوجه الآخر للبدر وهو يكشف عن المظاهر المزدحمة من امتلاء الأسواق بالخضراوات والفواكه، وروائح الأطعمة من الحارات والبيوت والمطاعم، للاحظنا أنها من تفاصيل الحياة العادية الواجبة لكل فرد، فهل يحصل عليها كل فرد؟.
الوقت يرنّ في الأعماق حسراتٍ على الذين فقدناهم إلى الأبد، وعلى الذين تفصلنا عنهم بلدان ومحيطات ومطارات، الوقت يرنّ حتى الصدأ وهو يغني “دقي دقي يا ربابة”.
هل يعقل أن تقف عقارب الساعة على كلمة الانتظار أو التكرار الروتيني؟ أما من جديد يا ساعة باب الفرج؟.
الوقت يسحبنا من غفلتنا مع موسيقا نحاسية يتقنها بائع مشروبات العرقسوس والتمر هندي، بينما القمر المطلّ على الأزقة التراثية والأسواق وخواطر الناس وأفكارهم يردّد معي: صحيح أنه لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس، لكن..، ماذا تفعل الروح المتألمة وهي أقرب إلى كلمات فيكتور هوغو: “ثمة لحظات تكون فيها الروح جاثية على ركبتيها مهما كان وضع الجسد”؟.