البعث بين النقد والحقد
د. خلف المفتاح
لاشك ان أي مسار سياسي طوبل، سواء كان لحزب أم لقوى سياسية وصلت للسلطة واستمرت لعدة عقود، يحتاج إلى نقد التجربة وتصحيحها وتطويرها من خلال معاينة الواقع والإنجازات والإخفاقات وتجاوزها عبر طرح فكر جديدة ومقاربات عملية دون التخلي عن المبادئ الأساسية، وإنما مقاربتها بصيغ جديدة أكثر عملية وواقعية وتحقيقاً للمصالح الوطنية؛ ولكن الانقلاب على الثوابت تحت عنوان أنها لم تلبّ أو تستجيب للأهداف الكبرى، وفي إطار نظرة غير واقعية بعيدة عن التحليل الموضوعي وطبيعة الظروف التي تمر بها البلاد، وحجم التحديات التي تواجهها، مع إشاحة الوجه عن الإنجازات الكبرى ومحاولة تسفيهها وإنكارها، فهذا ما يعكس انتهازية واضحة ومحاولة يائسة لركوب ما يعتبره البعض – مخطئين – مركب نجاة، أو موجة ما يعتقدها فرصة ذهبية للبقاء في السلطة، أو المنصب، وهو الذي مارس كل المهام السلطوية والحزبية، وغيرها، فهو مع كل تغيير شريطة أن لا يناله!!
وما دمنا نقترب من ذكرى تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، لابد للبعثيين والتيار القومي العربي الذي جسده البعث، فكراً ونهجاً، من إحياء مناسبة كهذه بنظرة نقدية، وليس بـ “حفلة تنكرية” للمسار الذي امتد لعدة عقود، وواجه خلالها “البعث” تحديات غير مسبوقة على الصعيد التنظيمي، وعلى صعيد مسيرته في قيادة المجتمع والدولة في سورية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن “البعث” هو من الأحزاب المعدودة ذات النهج الاشتراكي التي استمرت في السلطة، وحافظت على هويتها الفكرية، ومسارها وإنجازاتها، دون أن تعصف بها رياح التغيير التي اجتاحت المنظومة الاشتراكية، قبل ثلاثة عقود؛ والسبب، أو لنقل الأسباب التي تفسر ذلك هي ما توفر له من قيادات حافظت على ثوابته السياسية وروحه الثورية وعلاقته الوطيدة مع الجماهير، إضافة إلى انفتاحه على القوى السياسية، وتطور نظريته الفكرية، ومشروعه الداخلي، عبر إضافات مهمة تجسدت فيما طرحه القائد المؤسس حافظ الأسد، بعد قيام الحركة التصحيحية، من تعددية سياسية واقتصادية وتجديد للحوض السياسي ومقاربته لفكرتي الوحدة والاشتراكية مقاربة عملية، في خطابه بالمؤتمر القومي الثاني عشر عام 1975، والتي أخرجت نظرية الحزب من التكلس والتشرنق حول صيغ جامدة تمسكت بها قيادات الحزب منذ العام 1963 حتى ذلك التاريخ، ما أفقدها المرونة المطلوبة في التعامل مع واقع متغير يحتاج إلى براغماتية في التعامل مع حيثياته وموجباته.
والى جانب خطاب التصحيح الذي أخرج الحزب من من دائرة التقوقع حول الذات إلى الانفتاح على الواقع، كانت النقلة النوعية في إطار مسيرة الحزب نحو تجديد وتطوير نظريته النضالية، متمثلة في “خطاب التطوير والتحديث”، الذي تبناه الرفيق بشار الأسد، وطرحه في المؤتمر القطري التاسع للحزب، عام 2000، وعرض له أيضاً في “خطاب القسم” أمام مجلس الشعب في العام ذاته، وهو الخطاب الذي حظي بتأييد وترحيب واسع من البعثيين، أنفسهم إضافة للقوى السياسية الصاعدة، والمجتمع “المدني” السوري الذي قرأ فيه انفتاحاً سياسياً وتعميقاً للمسار الديمقراطي وبداية للبرلة اقتصادية تتيح مشاركة أوسع في الحياة السياسية والاقتصادية لسورية متجددة بفعل ذاتي يقوده “البعث” عبر عنوان عريض وواعد هو “التطوير والتحديث”. وكان لذلك النهج آثاره الإيجابية على كافة مستويات الحياة في سورية، سواء الاقتصادية أو السياسية والمعيشية، أو المسار الديمقراطي وسقف الحريات الآخذ في التصاعد والتوسع، حيث أتيحت مساحات أوسع في مجال الإعلام وتشكيل الأحزاب والصالونات الأدبية التي بدأت تعج بها المدن والحواضر السورية، ما أكسب الرئيس الأسد كاريزما إضافية مستمدة من واقع الإنجاز الديمقراطي المستند إلى مشروع وطني واعد وليس مشروعاً حزبياً ضيقاً.
لقد شهدت سورية خلال السنوات العشر الأولى من قياد الرئيس بشار الأسد تطورا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وديمقراطيا واسعاً، وهذا ما تؤكده مؤشرات رقمية، حيث الناتج المحلي جاوز الـ 60 مليار دولار عام 2010، بفعل ذلك النهج التطويري الذي تفاعلت معه القوي السياسية، وفي مقدمتها حزب البعث، وقوى المجتمع كافة تفاعلا جيداً، يستثنى من ذلك بعض المتضررين من هذا النهج، سواء كانوا في السلطة أو بعض القوى التي لا تريد لـ “البعث” أن يقود عملية إصلاح شامل بفعل ذاتي دون تخليه عن ثوابته، إضافة إلى من قرأ ما جرى – وهو مصاب بعمى الألوان – قراءة خاطئة، فبدأ بالتصويب على مسيرة الحزب وإنجازاته خلال عقود مضت، اعتقاداً منه أن ما حصل هو حالة فك ارتباط وقطيعة مع ماضي الحزب وإنجازاته وتاريخه ومشروعه الوطني والقومي.
وعلى الرغم مما واجهه مسار “التطوير والتحديث” من معوقات داخلية وخارجية، إلا إنه استمر بوتيرة عالية، وترافق مع انفتاح على دول العالم، آخذاً في الاعتبار أن سورية المتجددة بفعل تلك السياسة لم تتخل عن ثوابتها وهويتها العروبية والمقاومة، الأمر الذي لم يرق لبعض القوى الخارجية، فبدأت باتباع سياسة العصا والجزرة، ما يعكس أميتها في فهم سياسة الرئيس الشاب الذي لم يتخلّ أو يساوم على الإرث النضالي لمن سبق، وهو في أدبيات السوريين وعقيدتهم ووجدانهم الجمعي.
من هنا، بدأت المؤامرات تحاك مرة أخرى على سورية، سواء في لبنان عبر اغتيال الرئيس المرحوم رفيق الحريري، أم عبر بوابات الضغط الأميركية الإسرائيلية، ولكن دون جدوى، فجاء ما سمي “الربيع العربي” لتكون الجائزة الكبرى لمن اشتغل وراهن عليه سقوط “النظام” في دمشق، وفق فهمهم وقاموسهم السياسي. ولكن دمشق، التي تعرفهم جيدا، أسقطت كل حساباتهم ومشاريعهم المخادعة والمضللة، من الفوضى الخلاقة إلى المشروع الإخواني التركي وتوابعهما الانفصالية، وحمت الأمن القومي العربي من زلزال مدمر يعترف به الجميع اليوم، ما دفعهم لمراجعة مواقفهم من دمشق وتصحيح العلاقة معها، وهي التي أصبحت مكونا فاعلا في منظومة دولية صاعدة ترسم معالم نظام دولي جديد.
والسؤال الآن: ما هو المطلوب على الصعيد الداخلي؟ وعلى صعيد الحزب ذاته؟
الجواب على ذلك أن المطلوب هو الكثير، سواء على صعيد القضاء على الإرهاب المسلح أم الإرهاب الفكري. وهنا يبرز دور “البعث” بوصفه حزباً في السلطة، في مشروع توعوي شامل، نواته منتسبوه ومؤسساته، جنباً إلى جنب مع القوى الأخرى في البلاد، إضافة إلى تعريف دوره الاجتماعي ومهام منتسبيه؛ فلا بعثي بدون مهمة، ولا بعث بدون إنجازات حقيقية يلمسها الوطن والمواطن, ونذكّر البعثيين هنا أن ثمة مهام دائمة ومؤقتة لمنتسبيه وفق نظامه الداخلي، ومن المهام المؤقتة وجود حالة احتلال أو تحد خارجي، ما يستدعي انخراط البعثيين وجماهير الحزب في المواجهة الشعبية والمسلحة بمواجهة ذلك، وهذه من المهام الأساسية التي تفرض نفسها على قيادته المركزية ومؤسساته ومنظماته الشعبية، ومن ثم المساهمة الحقيقية في إعادة الإعمار بكل أشكاله، المادية والفكرية والتوعوية؛ ولعل الظرف الحالي، ومع حالة الاستقرار النسبي، فإن ذلك يستدعي العودة إلى تفعيل مضامين “خطاب التطوير والتحديث” التي تعطلت، أو توقفت بفعل الحرب الإرهابية التي شنت على سورية، واستبسلت فيها قواتنا المسلحة وأبناء شعبنا؛ فثمة عناوين مهمة تحتاج إلى إعادة تفعيل، منها التحديات التي أشار إليها الرفيق الأسد في خطابيه، في المؤتمرين القطريين التاسع والعاشر، ونذكر منها “تحدي العلاقة مع جيل الشباب”، و”تحدي الإعلام” و”تحدي التنمية” و”تحدي الفساد” و”دور المرأة” و”تعريف الشخصية القيادية” و”الحوار الوطني” و”الفقر والبطالة” و”تحصين الذات”، وكل ذلك يحتاج إلى حوار عميق ونخبوي وبنك عقول وطني ينعقد ويلتئم ليضيء على كل هذه العناوين وغيرها، وصولا لوضع آليات عملية وأدوات فاعلة لتنفيذها وفق خريطة طريق تعيد الروح لخطاب التطوير والتحديث الذي لا يزال صالحاً، من وجهة نظرنا، وصولا لسورية المتجددة التي يأملها كل وطني وقومي عربي مخلص.
إن الانقضاض على “البعث” وإنجازاته وتاريخه تحت عنوان النقد هو شكل من الانتهازية والردة السياسية اليائسة، فالبعث قادر على نقد مسيرته ومساره عبر مؤتمراته وحواراته الداخلية عالية السقوف، وبشفافية عالية، وثقة بالمستقبل، والارتكاز لتاريخ مشرف لا تخطئه عين إلا من أصابه العمى السياسي وحمى المناصب، فـ “البعث” استطاع تاريخيا نقد تجربته، وتوفرت له قيادات واثقة صادقة استطاعت إنقاذ الحزب وسلطته من كل أعاصير السياسة وتقلبات المشهد الدولي، وتحولاته، منذ سقوط التجارب الاشتراكية، وصولا للقطبية الأحادية، وحتى الوقت الراهن؛ ولأن البعث كان متوازنا ولا زال، فقد استمر في موقعه القيادي في الدولة والمجتمع وفاعلا في الساحة القومية.