الوضع الاقتصادي الأوروبي إلى أين؟
ريا خوري
ما زالت أوروبا تواجه المزيد من العقبات والتحديات الراهنة والمستقبلية، وهي تحديات ملحّة تساهم في تعطيل مسيرة تقدّمها كالصراعات الجيوسياسية المتفاقمة، وارتفاع نسبة التضخم، وزيادة الضغوط التنظيمية، وعدم اليقين الاقتصادي والتجاري، فضلاً عن تأثير التقنيات الحديثة المتطوّرة، وكل ذلك سيشكل اختباراً حقيقياً وعملياً لقادة أعمال القارة الأوروبية خلال المرحلة المقبلة.
وفي ظل النقاشات الحادّة الدائرة في مكاتب أصحاب القرار والتنفيذيين الأوروبيين تكشّف الكثير من المواضيع والاتجاهات المشتركة التي يتعيّن عليهم معالجتها في هذا العام، من ضرورة بناء أكبر قدر ممكن من العمل المرن، والحدّ من المخاطر المتفاقمة وتحقيق الاستقرار في المؤسسات الفاعلة، إلى الاستفادة إلى حد كبير من من قوة الذكاء الاصطناعي، مروراً بتحسين جهود الاستدامة مع ضمان جلب الاستثمارات للقيمة المنشودة منها والتي تحقق الأهداف المرجوة.
ووسط كل ذلك، أصبح المشهد الإداري والتنظيمي في أوروبا معقداً على نحو متزايد مع محاولة القادة وصناع السياسات الداخلية والخارجية مواكبة تأثير التكنولوجيا التي تتطوّر بشكلٍ متسارع. فعلى سبيل المثال، سيضع قانون الذكاء الاصطناعي الجديد المزيد من القواعد والمعايير الصارمة حول تطوير وتطبيق التقنيات والأنظمة ذات الصلة في مسار الأعمال وسياقاتها، وهذا يتضمّن حواجز الحماية للأغراض العامة، وفرض حظر كامل على الذكاء الاصطناعي من حيث صلته المباشرة وغير المباشرة بحقوق المواطنين والعمليات الديمقراطية، وحق المستهلكين في الاحتجاج وتقديم الشكاوى والمطالبة بتفسيرات ذات معنى فيما يتعلق بالقرارات والقوانين المستندة إلى تلك الأنظمة.
من الواضح تماماً أنّ أوروبا تعاني المزيد من الأزمات التي بدأت تتفاقم بفعل فيروس كوفيد ١٩ وتأثير الحرب في أوكرانيا والضغوط الأمريكية التي تخص الحماية والمناخ والناتو وإضافة المزيد من الرسوم الجمركية وضرورة إعادة بناء الجيش في العديد من دول الاتحاد الأوروبي الذي يكلف الخزينة نحو اثنين ونصف إلى ثلاثة بالمائة من الناتج القومي، إضافةً لما تدفعه من أموال طائلة وأسلحة وذخائر إلى أوكرانيا وتزوّد الكيان الصهيوني بالمال والسلاح والعتاد، وما تعانيه من أزمات تجارية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب.
إن حالة الوهن التي تصيب أوروبا في الصميم تدفعها للبحث عن حلول لتلك العقبات وخاصة في ظل موجة من اللوائح التجارية الجديدة الصادرة مؤخراً وضوابط الجمارك في جميع أنحاء المنطقة التي ستضغط على الشركات والكارتيلات التي تعاني بالفعل التحديات المتواصلة والمتعلقة بمختلف عناصر سلاسل التوريد الخاصة بها للالتزام بها. وبدءاً من الأول من شهر كانون الثاني من هذا العام ٢٠٢٤ خضعت الشركات الراغبة في ممارسة الأعمال التجارية على نطاق واسع في أوروبا لنظام تداول الانبعاثات في الاتحاد الأوروبي الذي يهدف إلى جعل أوروبا أوّل قارة محايدة للمناخ، وهو هدف مهم جداً.
لكن كل هذا التشابك وذاك التعقيد يتطلب استثماراً جاداً ومكثفاً في الأدوات الرقمية المتطوّرة لتوفير رؤية أكثر وضوحاً وأكبر تأثيراً حول الحالة المناخية لسلاسل التوريد الشاملة، وهو ما يقودنا إلى النقطة التالية المتعلقة بالمرونة المطلوبة وسرعة سلاسل التوريد.
لقد كان على كبار المسؤولين وقادة الأعمال أن يتعاملوا مع الاختناقات والمعيقات المستمرة وكأنّ تأثيرات وباء كوفيد ١٩ (كورونا) على سلاسل التوريد العالمية لم تشكّل تحدياتٍ كافية على مدى العامين الماضيين. وسواء كان ذلك في تغيير اتجاهات السفن ومسارها لتجنّب قناة السويس شريان الاقتصاد والتجارة العالمي، أو نقص مكوّنات التكنولوجيا الفائقة التطور، أو حتى تقلّب أسعار البضائع والسلع الأساسية في كل شيء بدءاً بالغذاء والدواء وانتهاء بالطاقة بكل أنواعها، فإنّ هذه العوامل، وغيرها، ستخلق فوضى وعدم استقرار هائلين في سلاسل التوريد.
لذا نجد أن الشركات الطموحة تسعى جاهدة إلى مزيد من المرونة في الاستجابة للمعيقات والتهديدات.
الجدير بالذكر أنه تم تسليط الضوء على أهمية التكنولوجيا في تعظيم فرص نجاح المؤسسات والإدارات من خلال الحفاظ على سلاسل التوريد المستقرة نوعاً ما.
إنّ أحد الأهداف الأساسية للتحوّل الرقمي ضمن سلاسل التوريد هو القدرة الفائقة على تحسين الرؤية الشاملة، ومع ذلك، وجد العديد من التقارير والإحصائيات التي أجرتها شركة (كيه بي إم جي) أن ثلاثاً وأربعين بالمائة من المؤسسات العالمية تمتلك رقابة محدودة غير فاعلة أو شبه معدومة على أداء مورديها من الدرجة الأولى. ومن الواضح في هذا السياق أنّ زيادة الرقابة والمتابعة على عمليات سلاسل التوريد تدعم أيضاً الجهود المبذولة من أجل الاستدامة الأوسع. وقد وجد العديد من التقارير والدراسات أن خمسة بالمائة فقط من انبعاثات سلاسل التوريد تنبع من التصنيع المباشر، في حين تبلغ الانبعاثات الكربونية الصادرة عن سلاسل التوريد الأوسع نطاقاً خمسة إلى عشرة أضعاف وهي نسبة عالية.
ويمكن للمنصات الرقمية تحسين قدرة الإدارات والمؤسسات على جمع بيانات الانبعاثات وحالات الاحترار بشكلٍ كبير، وتحديد المرامي والأهداف المناسبة للموردين الأساسيين لتحقيق نتائج استدامة تم العمل على تحسينها بشكل جماعي في جميع أنحاء سلاسل التوريد.
يضاف إلى ذلك، أنّ المؤسسات والإدارات ستستفيد بشكلٍ متزايد من قوة الذكاء الاصطناعي وفاعليته العالية لتحسين إدارة التوريد والخدمات اللوجستية المهمة والمشتريات. لذا من المنتظر أن يتم استثمار نصف شركات سلاسل التوريد في التطبيقات التي تدعم الذكاء الاصطناعي الفائق القدرة وقدرات التحليلات المتقدمة جداً في العام القادم ٢٠٢٥م.
في حقيقة الأمر وبناءً على المعطيات المتوفرة ستشهد الفترة المقبلة دون شك رغبة المزيد من الشركات في تمكين قدراتها في الأعمال لدفع الابتكار والكفاءة والإنتاجية وخاصة عندما تستخدم الذكاء الاصطناعي. ومن غير المستغرب أن تتوقع العديد من المؤسسات المتخصصة في استشارات الأبحاث والدراسات، أن تكون إدارة المخاطر والثقة والأمن في نماذج الذكاء الاصطناعي المتطورة واحدة من الموضوعات التقنية الرائدة للعام الحالي ٢٠٢٤، اعتماداً على التقدم المذهل الحاصل في مراقبة النماذج وأمن التطبيقات الإلكترونية الفائقة الدقة.
ومع كل ما يجري، قد تكون الشركات الأوروبية التي يعاني معظمها من الترهل والضعف والتراجع أكثر تردّداً في إطلاق العنان للذكاء الاصطناعي في عملياتها، وبالنظر إلى القوانين والتشريعات الناظمة في الاتحاد الأوروبي، فإن شركات المنطقة تتطلع إلى دمج برامج الذكاء الاصطناعي في نماذج أعمالها ومساراتها العملية وبيئات التشغيل الخاصة بها، مع تأكيد أهمية ومركزية الخصوصية والامتثال.
إن حالة التردّي الاقتصادي الأوروبية وتفاقم الأزمات المتلاحقة تجعلها في حالة تخبّط يمكن أن تؤدّي إلى فوضى عارمة لا تحمد عقباها.