القوة الأميركية تتراجع وتتآكل بشكلٍ تدريجي
ريا خوري
ما زال العالم يتابع أسباب تراجع الولايات المتحدة الأمريكية على الصعيدين الداخلي والعالمي، حيث بدأت صورتها تتبدّل في عقول وأذهان الشعوب والحكومات والدول، من صورةٍ تعكس حالتها الحقيقية إلى حالةٍ أخرى تتصف بالتراجع والوهن في الكثير من جوانبها. والجميع يعرف أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت الدولة الأقوى في العالم، وقد تحوّلت إلى دولة لم يعُد يمكنها فرض إرادتها على كل الشعوب والدول. لقد هيمنت الولايات المتحدة الأمريكية على النظام العالمي في كل مستوياته لعقود طويلة، ابتداءً من نهاية الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥م، مروراً بنهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين ١٩٩٣م، ومن ثم غزوها واحتلالها لأفغانستان والعراق، إلا أن صورة الولايات المتحدة الدولة الأقوى لم تعُد كما كانت عليه من قبل، ويمكن القول: إنها بدأت تتغيّر بشكلٍ تدريجي، ومع التطوّرات المتسارعة التي حصلت منذ الانسحاب الأمريكي المذل من أفغانستان، والحرب العدوانية على سورية وصولاً إلى الحرب الساخنة في أوكرانيا، يمكن البناء على العديد من المؤشرات التي تفيد بأنّ هذه القوة بدأت تهتزّ وتضعف على المستويات السياسية والعسكرية، والأمنية الاستراتيجية، كما على المستويات الاقتصادية والاجتماعية.
لقد شكّل الصعود الروسي الصيني أحد أبرز العوامل التي بدأت تبدل صورة وهيبة الدولة الأمريكية ومؤسساتها القادرة على قيادة العالم والهيمنة عليه وحلّ مشكلاته، والتدخل السافر في قضايا الشعوب والأمم والدول، وخاصة في عدم القدرة على كسر إرادة روسيا الاتحادية خلال الحرب الأوكرانية. وهناك تتداخل بعض المؤشرات السياسية والعسكرية الواضحة مع الصعود الروسي الصيني في مقابل التراجع الأميركي، ومنها سباق التسلح ونوعه وتطوّره لحفظ التوازن العسكري مع الصين وروسيا، لجهة نشر القوات العسكرية وتوجيه الصناعات الدفاعية وأولويات الإنفاق العام، حيث نجد أنّ الولايات المتحدة الأميركية تنفق ما يضاهي تسعمائة مليار دولار على الأمور العسكرية والتسليح في الميزانية السنوية العامة، في مقابل رخص الإنتاج الموجود لدى الصين وروسيا الاتحادية وكوريا الديمقراطية، علماً أنّ هذه الدول المنافسة للولايات المتحدة الأمريكية تمتلك أيضاً سلاحاً نووياً.
أيضاً تأتي في هذا الإطار السياسات المختلفة في تحقيق المرامي والأهداف، حيث يشهد العالم التحوّلات الأميركية الكبيرة نحو تحقيق الأهداف من خلال التحالفات الدولية والصداقات، وتخفيف الأعباء الكبيرة عن كاهل الولايات المتحدة الأميركية. وهذا ما يساهم في تغيير صورة القوة الأمريكية القادرة على التدخل السريع في العالم، والاكتفاء بتأمين تمويل الحروب والنزاعات والدعم التسليحي واللوجستي عند الاضطرار من دول ذات مصالح مشتركة كما يجري الآن في الحرب الأوكرانية.
ويشهد العالم حالة ضعف السياسة الخارجية الأمريكية حيث يبدو ذلك من وهن وضعف النفوذ الدبلوماسي الأميركي في معالجة الأزمات المتفاقمة، وحل النزاعات الدولية، ما يبيّن ضعف الفعالية الأمريكية الخارجية بشكلٍ كبير، وهذا ما بدأ يُظهر أيضاً فقدان ثقة الأصدقاء والحلفاء بالإدارة الأمريكية وعدم وجود معيار ونسق في المعايير الأمريكية في بناء العلاقات مع الحلفاء والشركاء والأصدقاء في عهدي الرئيسين دونالد ترامب وجو بايدن، وخاصة من الدول الأوروبية وتحديداً دول الاتحاد الأوروبي، وكذلك نحن العرب. وبالتالي فشل تطوير وتحسين استراتيجية جديدة تتجاوز الثغرات السابقة في السياسة الخارجية الأميركية وبناء التحالفات والشراكات، في مقابل تنامي قدرة المنافسين الإقليميين ومحاولة الخروج من الهيمنة الأمريكية في بعض الملفات كما حصل في الملفين التركي والسعودي، كدخول حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في تحالفات مع منافسيها مثل العلاقة السعودية الصينية والروسية، والعلاقة التركية الروسية والعلاقة الإيرانية القطرية والإماراتية، هذا فضلاً عن فشل مشاريع التطبيع الجارية في المنطقة، ومشاريع الأمن الإقليمي التي رسمتها الولايات المتحدة الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط، وقد ظهر مدى رفض الشعوب العربية المطلق للتعايش مع الصهاينة في أثناء فعاليات كأس العالم في قطر.
لقد بات واضحاً تراجع قوة ونفوذ الولايات المتحدة من خلال ما تمرّ به من حالة الانكفاء واستخدامها لاستراتيجية العقوبات بكل أشكالها. فقد اتبعت استراتيجية الانكفاء من خلال تخفيف التركيز على منطقة الشرق الأوسط الذي يبرز في عدم إيلاء المنطقة أهمية كبرى، كما في العقود السابقة، والإحجام عن التدخل العسكري بشكلٍ مباشر فيها، والخروج من الحروب الطويلة التي لا نهاية لها، حيث يعدّ الخروج المذل من أفغانستان أنموذجاً لذلك.
وفي مقابل هذا الانكفاء، تركّز الولايات المتحدة الأمريكية على سياسة العقوبات بدلاً من التدخلات العسكرية ضد الدول المناهضة لها، كالتي استخدمتها مع إيران وروسيا الاتحادية، علماً أن هذا السلاح لم تعُد له جدوى، وهذا ما تعترف به الدوائر الأميركية، فالعديد من الدول تمكّن من كسر جدار العقوبات الأمريكية والحصار الاقتصادي والعزلة السياسية، مع ما يعنيه ذلك من تسجيل إنجازات جديدة في اختراق السياسة الأمريكية في العديد من دول العالم، وهذا ما نجده يحصل مع فنزويلا، حيث بدأت الولايات المتحدة برفع الحصار عنها للاستفادة النفطية منها والثروات الأخرى.
ليس هذا فحسب، بل بدا التراجع الأمريكي واضحاً في المجال الديمقراطي، والدليل على ذلك ما حصل من اقتحام للكابيتول، فكانت حادثة الكونغرس مؤشراً كبيراً على انهيار الديمقراطية، وكذلك الانقسام الحاد في المجتمع الأمريكي، منذ عهد الرئيس السابق ترامب إلى عهد بايدن ومحاولة إعادة ترميم صورة أمريكا في العالم.