عصام ترشحاني..!
حسن حميد
بلى..
كنا على موعد مع رحيله لأن المرض أنهك جسده، ولأن التعب تجلّى علامات في عدم حضوره لأنشطة ثقافية كثيرة، ولأنّ صوته بحّ وهو ينادي الجسد لكي لا يهوي أو يرتمي فجأة، كان الشعر مصباحه، وشواغله الأخيرة، به كان يقيس عافية الحياة وهو يكتب، وينشد بصوت خفيض للبلاد الفلسطينية العزيزة، وقد دهمتها شرور الإسرائيليين مرة أخرى، وفي موقعة دموية أخرى، وفي غزة المكان والمهابة تحديداً.. غزة التي آخت البحر فصارت صنوه، وآخت الصحارى فجعلتها واحات وبساتين، وحرست الدروب فقادتها إلى عوالم حضارية فيها من العمران ما يذهل العقل، وفيها من المعارف ما يبهر الخيال، وفيها من الجمال ما يحير النظر.
أجل أنا أتحدث عن رحيل الشاعر عصام ترشحاني الذي أفاء إلى عالم الشعر، وهو في ريق العمر، ليكتب القصيد اللافت للانتباه، وهو لم يزل طالباً في المدرسة الثانوية، وليصير اسماً يعبر عن جمال الشعر وقدراته وهو يتحدّث عن المأساة الفلسطينية وجروحها وأحلام أهلها، والأمكنة التي مستها قواهر النفي والفقد والأسى والتشريد بلوعاتها الولود.
عصام ترشحاني، من قرية ترشيحا الجليلية المعلقة بيد السماء، والدانية من مدينة صفد، قرية ولدت مع ولادة الزمن، فعرفت العمران والكتاب منذ اختراع الأبجدية، وما ولّدته الطبيعة من موسيقى، وعرفت العلو مع الجبال الراسيات حولها، ومع الغيوم السابحات في فضاء ملأته الطيور بالتحليقات البديعة، ومع حقول عرفت الخصب قمحاً، ووروداً، ودوالي عاشقات للخضرة الآبدة، مثلما عرفت المثاقفة مع القادمين إليها من جميع الجهات، ومع الراحلين منها إلى بلاد الشام، وحواضر البحر، وإلى البعيد حيث البلاد المصرية، فعاد أبناؤها بالغنى المعرفي والمادي في آن، وامتدت القرية حتى صارت قلادة من البيوت ، لها سياج باذخ من الحقول والعقول معاً.
عصام ترشحاني كان ابن ستة أعوام حين هجّرت أسرته من بلدة ترشيحا عام 1948، خرج وليس في سمعه سوى صوت الرصاص الإسرائيلي الذي طوى الحياة والمكان والأحلام؛ وليس في عينيه سوى صورة الباكين، كان عصام ترشحاني يستعد لدخول المدرسة الابتدائية، لكن ظلم الإسرائيليين حال بينه وبين حلم الدخول إلى مدرسة ترشيحا الابتدائية ذات البناء الفضي البهيج، والعلم العالي الذي يرفرف بألوانه الأربعة، ونشيد “بلادي ـ بلادي” التي يعمها في الصباحات البواكر.
خرج عصام ترشحاني مع أسرته وأحزانه وهو يلتفت نحو بيوت القرية ذات الحجارة البارقة بالزرقة مرة، ونحو الحقول العامرة بما خصّها الله بالخصب والتنوع مرة أخرى، يبكي لأن كل من هم حوله يبكون، وقد غدا الجميع مطرودين مهجرين من ترشيحا.
في حلب، تعلّم ترشحاني في مخيم النيرب، وتثقّف، فقرأ جغرافية فلسطين وتاريخها في البيت مرويات للأحداث والحادثات، وتوصيفاً للبقاع الجغرافية، وعرف الحنين للمكان والتاريخ كتابة للشعر وهو في المدرسة الثانوية، وعرف الشهرة في مهرجانات جامعة حلب، واستوى في مكانته الشعرية حين راحت دواوينه تترادف في صدورها، وفيها المعنى الفلسطيني برموزه وإشاراته، وطيوفه التراجيدية التي اتسعت حتى أغرق حزنها كل الأشياء.
وقيضت الظروف أن يعيش عصام ترشحاني في حوالي 50 سنة من مساهرة الشعر والدوران في عالمه السحري، من خلال مناددة شعرية مع أربعة من شعراء فلسطين يعيشون في حلب، كل منهم يقول: “النيافة لي، وصهوة الشعر لي، والألقاب لي”، هؤلاء الشعراء هم: نظيم أبو حسان، وعادل أديب آغا، ويوسف طافش، ومحمود علي السعيد، وقد أثرى هؤلاء الشعراء مدونة الشعر بجمال قصيدهم، واستقطبوا الكثير من النقاد والبارعين في حلب، وسورية من جهة، وفي البلاد العربية من جهة أخرى لينظروا في هذا القصيد البهيج، كما أثرى هؤلاء الشعراء المشهد الشعري في حلب أولاً، وفي سورية ثانياً، وباتوا جهة شعرية لافتة للانتباه عربياً، ولم ينظر إليهم إلا بوصفهم كتلة شعرية واحدة دخلت بكليتها في مدونة الشعر الفلسطيني المقاوم، فكانت إحدى بقعه الأرجوانية المميزة، ذلك لأن عصام ترشحاني ورفاقه الشعراء؛ جددوا رموز الشعر الفلسطيني، فنقلوها من أحياز المادية (قضبان السجون، وروائح البرتقال، والسلاح) إلى فضاءات الخيال، فقد صار الحزن حالًا، بعدما كان بكاء مسموعاً، وغدا الحزن طريقاً للخلاص بعدما كان مكثاً قرب الشهيد، أو البيت المدمّر، أو التلبّث في المقبرة للرثاء، كما جددوا فضاءات القصيدة ووسّعوها، فما عاد المخيم فضاءها المرسوم فقط، ولا السجن هو الفضاء الطارئ الضاغط، بل غدت فضاءات القصيدة هي فضاءات الحرية بتعددها وشموليتها.
عصام ترشحاني ورفاقه شكلوا ظاهرة شعرية متفردة في المشهد الشعري الفلسطيني بداية، ثم عمّت حتى شملت المشهد الشعري العربي تالياً، وقد كانوا أهل وعي بما صنعوه من حضور وتفرد، أما أصداء صنيعهم الشعري فقد تجلّى في احتفائيات الصحف والمجلات ودور النشر بنصوصهم، وبالتفاتات النقاد الكبار إلى جماليات قصيدهم.
لقد اغترب بعض شعراء هذه الظاهرة طلباً للعمل، وارتحل بعضهم مفارقاً الحياة، لكن معنى الظاهرة الشعرية بقي حاضراً لأنّ أسسها ضاربة في الأعماق ولأنها محروسة بمؤيداتها الجمالية.
عصام ترشحاني، وهو عصب شعري عزيز في هذه الظاهرة الشعرية، يرحل في أيامنا هذه، ولكن ستبقى عطاياه الشعرية هدايا للمعنى الفلسطيني العزيز، لقد جالس عتبات هذا المعنى وذراه وغمرهما بالشعر حتى غدت هذه العتبات قناطر شعرية اسمها قناطر عصام ترشحاني الشعرية، وتلك الذرا غدات صهوات لشعر فاز بالطموح.
Hasanhamid55@yahoo.com