ميلاد “البعث”.. ولادة جديدة
بسام هاشم
تمر ذكرى ميلاد البعث هذا العام وهو يقف على مفترق طرق، بكل معنى الكلمة، فإما أن يثبت جدارته باسمه وبدوره التاريخي ومسيرته الكفاحية، وإما أن يستعد للانضمام إلى مجموعة القوى والأحزاب التي أتخمت بها خزائن المتاحف السياسية. فإن كان البعث، ومعه علاقته بالعروبة، يرتبط بالخلود والانبعاث والتجدد، ويمتد كفكرة لا تعرف الموت، ولا الزوال، فإن الحزب، شأنه شأن أي تنظيم سياسي، يمكن أن يشهد حالات من الصعود والهبوط، ومن التقدم والتراجع، لأنه نتاج حركة الواقع المعاش بكل تفاصيله وتعقيداته، ولأنه نتاج انتصارات وانكسارات، وامتدادات وردّات عكسية، ذلك أنه يتأثر بروح العصر والمناخات الإيديولوجية والموجات السياسية الفلسفية القائمة، وتتأثر به، وقد تكون علاقته معها، في بعض الأحيان، علاقة تحالف، أو تضاد، أو علاقة صراع مرير يتخذ أبعاداً وجودية، والمقصود هنا – بالطبع – الحركة الصهيونية، وكل التيارات الشوفينية، المحلية والعالمية، التي تضع نفسها في حالة عداء مع العروبة الحضارية.
واليوم، وفي الذكرى السابعة والسبعين لتأسيسه، يواجه البعث واحدة من اللحظات الحاسمة والمصيرية، ولعلها اللحظة التي تختصر – أقلّه – حصيلة قرابة ثمانين عاماً من المواجهة الضارية، ومتعددة الجوانب والمستويات، مع التوسع الإمبريالي الغربي ونفوذ قوى التبعية والتخلف، ومحاولات التفتيت من الداخل، ومشاريع قوى وتنظيمات بعينها عملت – وتعمل – على تمهيد الطريق أمام عودة الغرب الاستعماري “السياسي والثقافي والعسكري”، بغية تحقيق مكاسب انتهازية على حساب الوحدة الوطنية والقومية ومبادئ الاستقلال والسيادة. ومنذ بداية هذا القرن، واجه “البعث” محاولات الاجتثات التي أريد لها أن تنتهي، في آخر مطافها، عند تقسيم سورية إلى كيانات متناحرة. وإذ تمكنت سورية من تحطيم المؤامرة التي تواطأ فيها خليط من تحالف الصهيونية العالمية مع الغرب الأطلسي والعثمانية الجديدة وقوى الرجعية ممثلة بالإخوان المسلمين وذيولهم – وهو التحالف نفسه الذي كان حطّم يوغسلافيا، ودمر العراق، وفرض كلاً من اتفاق دايتون ومن ثم دستور بريمر، بما يشرعن التقسيم – فإنها تنتصب، الآن، على عتبة نظام عالمي جديد كانت حلبة المواجهة الأولى والرئيسية في بنائه، لتستعد للدخول في حقبة تاريخية مختلفة يدشنها، اليوم، الرفيق بشار الأسد، الأمين العام للحزب، وتصوغ من خلالها عقدها الاجتماعي الجديد وهويتها الوطنية المتجددة، استناداً إلى حقيقة أنها لم – ولن – تستخلص من دروس الحرب إلا الإيمان بقدرة الشعب، والجرأة على الإقدام، والثبات على الموقف، والثقة بالمستقبل.
خلال أسابيع معدودة، استطاع الرفيق الأسد أن ينشر مناخاً من الأمل، وأن يبث الحيوية داخل الحزب – في بنيته التنظيمية والفكرية التي كادت أن تصاب بالترهل والتكلس – وفي أوساط الشارع السوري الذي يدرك، كل الإدراك، أن ما يربطه بـ “البعث” أكبر من مجرد علاقة تنظيمية أو غير تنظيمية، وأن “البعث” يبقى تعبيراً أصيلاً عن العروبة التي شهد إقليم بلاد الشام أبهى تجلياتها الحضارية، وأن روح “البعث” تجسيد لمزاج الشعب السوري وسيكولوجيته الجماعية، وأن “البعث” يبقى الرافعة الأساسية للعمل الوطني، كما عرفته سورية الحديثة منذ إعلان تأسيس الجمهورية. وعلى التوازي، فإن تطورات الأحداث والوقائع ما كان لها إلا أن تؤكد تزايد الحاجة لـ “البعث” في ظل استمرار التوحش والقتل والاستيطان وحروب الإبادة والتجويع الإسرائلية، وتجاوز كل الخطوط الحمر، والضرب عرض الحائط بأبسط قواعد القانون الدولي، وفي ظل اتساع رقعة الصراع العربي الصهيوني، واستقراره على كامل أبعاده الجيوسياسية، باعتباره صراعاً بين القومية العربية والإسلام والمسيحية في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية والغرب الأطلسي والصهيونية العالمية، وصراعاً بين الإنسانية والتوجش. ومهما قيل عن أفول الإيديولوجيا والعقائدية، ومهما قيل عن البروباغاندا السياسية، فإن الإيديولوجيات تعود اليوم إلى الحياة، في مختلف القارات، وعلى دعاة الليبرالية الجديدة إخلاء الطريق أمام صيغة متقدمة من الوطنية المستقبلية.
لقد أطلق الرفيق الأسد تجربة ديموقراطية وطنية لن تقف عند حدود الحياة الداخلية والتنظيمية للحزب، بل تعدتها لتشمل لقاءات حوارية وحلقات نقاشية ومراجعات نقدية في مختلف القضايا التي تهم الحزب والدولة والمجتمع، وسوف تشكل هذه التجربة، بروحيتها وثقافتها، الأنموذج الأولي للانتخابات البرلمانية القادمة، كما ستعكس مسبقاً صورة أية حكومة جديدة، وأي حوار قد تفرضه الحاجة والضرورة. ولسوف يكون العام 2024، ودون أدنى مبالغة، عام الاستحقاقات المفصلية في تاريخ سورية والشرق الاوسط.
وللحقيقة، وفي أجواء التفاؤل الواعي والموضوعي، فإن أخطر ما يمكن أن يواجهه البعث اليوم هو عدم قدرته على إصلاح ذاته، الأمر الذي يتطلب من البعثيين، جميعاً، وقفة صادقة مع أنفسهم، والكف عن جلد الذات، بسبب أو بدونه، فما تحتاجه المرحلة هو الشعور بالمسؤولية، الشخصية والمجتمعية والوطنية، وعدم الوقوف في مقاعد الانتظار، فالبعثي الحقيقي، أياً كان موقعه أو صفته الحزبية، هو من لا يتخلى عن دوره، وهو الذي يسارع للإمساك بزمام المبادرة، ويرفض الوقوف موقف المتفرج.. فالبعثي الحقيقي هو البعثي المشارك، وعندها فقط يغدو ميلاد “البعث” ولادة جديدة.