ثقافةصحيفة البعث

“سقيفة لندن”.. سفر توثيقي ومرجعي في تاريخ العراق الحديث

علي فرحان الدندح

على الرغم من أن مصطلح “المسافة صفر” موجود ومتداول منذ فترة طويلة، لكنه لم يكن معروفاً على نطاق واسع، فما يعرفه البعض أن المسافة صفر هي اسم لفيلم روائي، أو برنامج تلفزيوني، أو كتاب، أو عنوان مقال، فهذا المصطلح لم يلقَ شهرته هذه إلا بعد أن استخدمه مغاوير المقاومة في غزة، بطريقة عملية، أثناء تصديهم للعدوان الهمجي البربري الذي تشنّه قوات الاحتلال الصهيوني على قطاع غزة، منذ بدء معركة “طوفان الأقصى”، وهذه الاستراتيجية تعدّ المستوى الثالث من الحروب والاشتباكات داخل المدن.
والمسافة صفر، هي القدرة على المواجهة من أقرب نقطة للعدو، وبالمعنى الحقيقي، لم ندرك حقيقة ذلك إلا بعد ما شاهدناه بأم أعيننا، عندما جعل المقاوم الفلسطيني للصفر معنى وقيمة، فمن يقوم بتلك العمليات ليسوا أشخاصاً عاديين، بل رجال تفوق رجولتهم وقدراتهم قدرة جيوش، فهم مغاوير، وأسود يذودون عن أرضهم وعرضهم، ومقدّساتهم، برجولة وكبرياء.

وعطفاً على ما تقدم، أذهب بصحبتكم إلى العراق وما راكمته الحروب والتحديات والاحتلالات التي أنهكت البشر والحجر، ومع ذلك بقي القلم العراقي الملتزم بقضايا وطنه يمدّ جسراً لقادم الأجيال، جاعلاً المسافة صفر بين الواقع والخيال، بين الانسجام الجمعي والتكيف الإيجابي في محاولة لتفكيك الوسائل والغايات التي استخدمها أعداء الوطن لتدميره وإخراجه عن دائرة صناعة التاريخ الإنساني.. كل هذا وأكثر في كتاب “سقيفة لندن” للكاتب والباحث آيدن آقصو الصادر عن “دار الصحيفة العربية” في بغداد و”دار العراب للطباعة والنشر” في دمشق.
ويعّد هذا الكتاب قراءة استراتيجية، وتفحصاً شمولياً، في تحولات العراق وأحواله في خضم المتحولات الدولية العديدة والشائكة خلال عقود ثلاثة ماضية على وجه الحصر. وفي ثلاث مئة وخمسين صفحة من القطع المتوسط وثلاثة أبواب اشتملت على أحد عشر فصلاً، يناقش المؤلف موضوعات مهمّة جداً تستحق الدرس والتفحص سياسياً وأكاديمياً، معتمداً في سرد الوقائع على خبرته المهنية والأكاديمية والوظيفية، وداعماً إياه بأهم المراجع والدراسات والأبحاث.
لم ينحاز الكاتب في مسار قراءاته واستنباطاته وتحليلاته، إنما ظلّ لصيقاً بالهوية العراقية العامة الجامعة، ما جعله منصفاً حقيقياً، وتالياً هيّأ له حرية البحث والتحليل بموضوعية، ويفسّر آقصو ذلك بقوله: “العراق.. الأرض التي عمّرها نوع إنساني متفرد في نزوعه إلى تطويع الطبيعة كالعجلة والنار وقوننة التنظيم الاجتماعي حتى صار وطناً استثنائياً لإنسان استثنائي تعرّض على مدى تاريخه الذي يربو على سبعة آلاف سنة لعشرات التحديات الاستثنائية”.
بهذا السرد العميق يمرحل المؤلف حملات الغزو التي استخدمت الخيول والسفن الشراعية، في مراحل تاريخية قديمة، أو تلك التي أتت على فرقاطات وحاملات طائرات وأساطيل في مراحل تاريخية معاصرة وحديثة، وجرّبت فيه وعليه، أخطر ما أنتجته مصانع أسلحة الموت والتدمير والفناء، حاملةً معها مشروعاً خطراً للثأر من بابل التي هي بحسب صاحب السقيفة: “بنت العراق، وليست مملكة عابرة على تاريخ العالم، إنما هي بما اجترحته من أهوال لمواجهة أسلاف أعداء العراق، مملكة تنبّأت ببعض مصائر العالم فانتبذت لها قلب الهجوم على أولئك الأعداء، وجرهم سبايا إلى حصونها، وتعطيل دورهم التاريخي والتدميري المبكر للكون”.
في الكتاب تساؤل شائك ومعقد بحسب المؤلف: “هل العراق في العشرينية الأولى من الألفية الثالثة في طور بناء جديد على ما بني سابقاً، أم في طور هدم لكل ما بني طوال مئة عام من عمر دولته الحديثة؟”، والإجابة الراجحة تستلزم الإحاطة الشاملة في المتغيرات البنيوية على أصعدة السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والتعليم والفنون والآداب.
على هذه المنهجية والاحتراس الموضوعي والفكري خاض آقصو معتركاً صعباً في تحليل ما يمرّ به العراق، شعباً ووطناً، من مشكلات تهدّد أمنه واستقراره وتعمل على تفكيك مكوناته حتى لا يشعر الفرد فيه بالأمان، فالفكرة تتحول إلى مشاعر والمشاعر تصير كلمة، والكلمة تنتج فعلاً ينسف القيم ويخرب الأوطان، لذا يجب ترسيخ التسامح عبر قوانين صارمة وتعليم منذ الصغر بهدف إبطال كلّ ما من شأنه تهديد الوطن والمواطن، ونعني هنا انسجام الشعب بمختلف مكوناته، فلا تنابز ولا تمايز، ولا طبقيات عليا وطبقيات سفلى، ولا مواطنة أولى ومواطنة عاشرة، ولا مركز ولا هامش، ولا صناع قرار ولا مستهلكو قرار، ولا فوق ولا تحت، ولا سادة ولا عبيد، ولا أمراء ولا خفراء، وهذا لن يتحقق إلا من خلال “قوة الدولة والمسافة الصفر”.

يقرّر الباحث آقصو أن موت السلطة في أي دولة ناجم عن ضمور الدولة من جراء عوامل خارجية كالتدخل الخارجي والحروب العسكرية والاقتصادية، وداخلية ناجمة عن تفاعلات اجتماعية متضادة بين مكونات الشعب والدولة، وضعف السلطة قد يكون واحداً من الأسباب المؤدية إلى ضمور الدولة في مفهومها الشمولي، وهذا لا يكون إلا بعد تعرض قوتها إلى الانحلال التدريجي الكلي أو الفجائي الكلي، كوقوعها تحت الاحتلال الأجنبي وتدمير عناصر وجودها.
إن قوة الدولة هي المعيار الأساس في تحديد مكانة تلك الدولة بين الدول أو مكانة شعبها بين الشعوب، فمقومات القوة الاقتصادية لا تكمن فقط في ما تمتلكه الدول من مقدرة مالية وصناعية وتجارية، وموارد طبيعية متوافرة لديها ومواد خام تحصل عليها من دون عوائق وبأسعار تنافسية، مقومات القوة تكمن أيضاً في ما تملكه دولة ما من مخزون معرفي وتقني عالٍ، وتالياً انعكاس مباشر على ميزان التجارة واقتصاد القطاع العام والخاص.
وفي الختام نقول إنّ عمق الأبحاث والمواضيع والمفاصل التاريخية التي قدّمها الكاتب والباحث آيدن آقصو في هذا الكتاب شمل جميع مناحي الحياة السياسية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية، ليكون سفراً توثيقياً ومرجعاً لقادم الأزمان والأجيال في تاريخ العراق الحديث.