دراساتصحيفة البعث

الكيان الصهيوني من حرب إلى حرب

ريا خوري

ما زالت الحرب الدامية المدمِّرة في قطاع غزة مستمرة بعد مضيّ ما يزيد على ستة أشهر، هذه الحرب التي يقوم بها جيش العدوان الصهيوني ضد شعبنا العربي الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، تم وصفها عالمياً بأنها حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي، وتجويع وحصار ودمار دون أن يرفَّ جفن لهؤلاء القتلة الصهاينة وداعميهم في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. هنا تنشأ العديد من التساؤلات من مثل: إلى متى ستبقى هذه الحرب المدمّرة المجنونة تأكل الأخضر واليابس؟.

في حقيقة الأمر يبقى هذا التساؤل ضرورياً جداً، وخاصة أنَّ ما يجري من عمليات عسكرية تسير وفق منطق الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتدمير الكلي شبه الشامل للبنى التحتية للأراضي الفلسطينية، يعدُّ حدثاً مفصلياً في تاريخ الصراع العربي الصهيوني الذي استمرّ طوال مئة عام  تقريباً من الصراع الدموي، لم يستطع العدو الصهيوني خلالها تحقيق شطب القضية الفلسطينية، وإلغاء الحقوق الوطنية المشروعة للشعب العربي الفلسطيني والانتصار النهائي، على الرغم من الفارق الهائل في القوة العسكرية بين الطرفين، لأسباب عديدة، أهمها العقيدة الوطنية الفلسطينية التي تجذّرت وتعمَّقت وتعمّدت بالدم على مدى عشرات السنين من الصراع، والعمق العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية على الرغم من حالة الشعور بالخذلان في هذه الحرب المفصلية.

الجدير بالذكر أنَّ صراع الشعب والمقاومة الفلسطينية مع الكيان الصهيوني وعلى مدى يزيد على خمسة وسبعين عاماً، على الرغم من كل ما تم تقديمه عربياً وفلسطينياً من تنازلات متتالية اعتقد أصحابُها أنَّها قد تُسِهم في إيجاد حلول وسط من أجل تحقيق الأمن والأمان والسلام بين الشعب الفلسطيني والصهاينة، من منطلقات رئيسية، أبرزها رغبة الشعب الفلسطيني في السلام وتحقيق المشروع الوطني  بإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين بموجب قرار الأمم المتحدة رقم 194، وإنهاء دوّامة العنف التي تطحن مقومات الشعب الفلسطيني بشكلٍ مدروس وممنهج، وهذه الرغبة في السلام ليست رغبة طارئة على الفلسفة الفلسطينية، ودليل ذلك الحياة المشتركة التي عاشها اليهود مع الفلسطينيين، قبل الكيان الصهيوني في عام 1948 من القرن الماضي، حتى إنّ الكثير من كبار السّن الفلسطينيين، يروون العديد من القصص والروايات التي كانت تحدث قبل نكبة عام 1948. لكن كل صور هذه الحياة المشتركة تلاشت بعد قيام الكيان الصهيوني، وحلَّت حالة من العداء المتفاقم التي زادت من تعمّقها في صفوف الشعب الفلسطيني المجازر المروّعة البشعة التي ارتكبها المستوطنون الصهاينة الأوائل، من خلال العصابات الإجرامية المسلحة مثل عصابة الهاغانا، وشتيرن، وبيتار، وإرغون، وبلماح، وعصابات الإتسل والليحي، التي سُجّل ارتكابها لعشرات المجازر الكبرى مثل مجزرة دير ياسين التي وقعت في 9 نيسان عام 1948 وتم خلالها نسف المنازل على رؤوس سكانها، ما أدّى إلى استشهاد أكثر من مئتين وخمسين فلسطينياً، بينهم 26 سيدة حاملاً، تم بقر بطونهن، وهنَّ أحياء برؤوس حراب بنادقهم.

لقد شهدت فلسطين عبر تاريخ صراعها مع الكيان الصهيوني منذ نشأته، الكثير من المجازر البشعة المشابهة التي من الصعب حصرها، فقد اكتشفت مؤسسة الأقصى للوقف والتراث 6 مقابر جماعية تضمّ مئات الهياكل العظمية والرفات لشهداء مناضلين ومدنيين قتلهم الاحتلال الصهيوني بدم بارد خلال عام 1936 عام 1948 من خلال أعمال إعادة البناء والترميم التي كانت تقوم بها مؤسسة الأقصى للوقف والتراث في مقبرة الكزخانة في مدينة يافا الفلسطينية. تلك المجازر البشعة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية الإجرامية قد تجاوزت الــ75 مجزرة، كانت قد نفّذت تلك المجازر البشعة في القرى والبلدات الفلسطينية التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من أبناء الشعب العربي الفلسطيني، حيث تم تدمير 513 قرية فلسطينية وذلك بهدف تحقيق عملية التطهير العرقي وإجبار سكانها على المغادرة القسرية.

لقد برز التأثير الكبير للقوى اليمينية المتطرفة في الكيان الصهيوني التي كانت ولا تزال معارضة لفكرة السلام، وبعد حرب الخامس من حزيران عام 1967، زادت شهية الكيان الصهيوني الغاصب بسبب حالة النشوة بالانتصار إلى المزيد العنف والقهر وسرقة الأراضي الفلسطينية والاستيطان فقد تبلورت تلك القوى الصهيونية اليمينية المتطرفة بشكلٍ كبير بعد حرب تشرين التحريرية عام 1973، التي فتحت الأبواب أمام التسوية السياسية السلمية للصراع الدامي في المنطقة.

وعلى الرغم من العمل السياسي والدبلوماسي العربي الذي شاركت فيه معظم الدول العربية وتحديداً بعد مؤتمر القمة العربي الرابع عشر للسلام بيروت، 27-28 آذار 2002 وبعد مؤتمر مدريد للسلام وهو مؤتمر انعقد في الثلاثين من تشرين الأول عام 1991 في قاعة العمدان في القصر الملكي في مدريد عاصمة اسبانيا، وشاركت في المؤتمر وفود من سورية ومصر ولبنان ووفد مشترك فلسطيني – أردني، ورعت المؤتمر كل من الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا الاتحادية. وحضر المؤتمر وزراء خارجية الدول المشاركة، إضافة إلى الرئيسين ميخائيل غورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، والرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب). وبعد عدة جولات تفاوضية طرح موضوع اتفاقيات سلام وكان ما قدّمه الجانب الفلسطيني من تنازلات، في اتفاقيات أوسلو التي تم توقيعها في 13 أيلول 1993، وقبلت فيه منظمة التحرير الفلسطينية بنحو ثمانٍ وعشرين في المئة من مساحة فلسطين التاريخية، مقابل الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.

الواضح تماماً أنَّ الكيان الصهيوني تجاهل بشكلٍ كبير ما تم الاتفاق عليه في أوسلو، وزاد من عمليات سرقة الأراضي والاستيطان بشكلٍ كثيف في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحديداً بالضفة الغربية، كما تعامل القادة الصهاينة باستخفاف وعدم مبالاة مع مبادرة السلام العربية في عام 2002م الداعية لإقامة دولة فلسطينية معترف بها دولياً وعاصمتها القدس، على حدود عام 1967، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم وممتلكاتهم والتعويض عليهم بموجب القرار الدولي رقم 194، وانسحاب العدو الصهيوني من الجولان المحتل، مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية مع الكيان الصهيوني.

في الختام نرى أنّ الكيان الصهيوني ماضٍ في عملياته الوحشية الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني وهو ليس راغباً في أي عملية سلام مع الدول العربية، بل يصنع أعداءً جدداً له، وأن ما يجري من عمليات عسكرية عدوانية في قطاع غزة ضد الشعب العربي الفلسطيني تتسم بالإبادة الجماعية، لن يتمكّن من القضاء على الشعب الفلسطيني أو إفراغ غزة من سكانها في أبشع عملية تطهير عرقي في التاريخ الحديث.